تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

محمود السعدني .. “المسافر الشقي” ساخر هذا الزمان

هاني سميــر علي
هاني سميــر علي

6 د


الفُكاهي الحق ينبغي أن يكون ممروراً غاية المرارة، وإلا فإن فكاهته تصبح ضرباً من اللهو!

في محافظة الجيزة بمصر ولد الكاتب الساخر محمود السعدني في يوم 20 نوفمبر 1928، فهو صاحب مدرسة مستقلة في الكتابة الساخرة، فهو على عكس غيره من كتاب عصره كان يختمر الحزن في قلبع ليصنع منه أدبًا، وفنًا ساخرًا.

ففي كتابه “مذكرات الولد الشقى”، يتحدث عن حياته وعن الشخصيات التي أثرت فيه، من شيخ الكُتاب شديد القسوة كما يصفه، حتى والدته التي وهبها الله القدرة على السرد، ووالده وأهل السياسة والفن والصحافة.

محمود السعدني

رحلته بالصحافة لم تكن باليسيرة والممتعة كما يظن البعض، بل كانت شاقة مجهدة، فقد منع كثيرًا من الكتابة وسجن أحيانًا بسبب رأيه، وفي عام 1946، بدأت الصحافة تعرف “السعدني” في مجلة “الضباب” التي كان مقرها يومًا ما إسطبلًا لحمير أحد المماليك البحرية!

ولقد صادف تجربته الأولى في عالم الصحافة الفشل، لذلك أقدم على الانتحار ولكن شجاعته خانته في اللحظة الأخيرة، وعاد إلى مقهى السروجي وهناك سمع عن مجلة جديدة اسمها “كلمة ونص” ذات طابع ساخر، يرأس تحريرها الكاتب “مأمون الشناوي”، فذهب إليه لمقابلته وكان هذا اللقاء سببًا في تغير حياته! رغم أن “مأمون الشناوي” استقبله بعدم مبالاة ولم يرحب به، وقال له: عاوز تكتب؟

ولمّا أجاب بالإيجاب، تساءل فى تهكم: وبتعرف تكتب؟

 فأجابه: “نعم”، فأشار إلى مكتب أمامه وقال “اقعد كده ورينى”، ورغم ارتباكه الشديد وخوفه من الفشل في أول امتحان حقيقي يواجهه، فقد كتب عدة أوراق بسرعة، وعندما ألقى عليها نظرة قال وهو يتفحصها: “إنت اسمك إيه؟”

وهتف على الفور: “محمود السعدنى”، فسأله وهو يشعل سيجارة: “أنت عارف السعدنى يعنى إيه؟”، ولما أجابه بالنفي قال: “السعدان يعنى القرد، والسعدني يعني القرادتي!”

وفكر السعدني أن يلعن جدوده وينصرف، لكنه تسمر فى مكانه كالتمثال لا يتكلم ولا يتحرك حتى قال له مأمون: “أبقى فوت علينا تاني.”

وفى العدد التالي من المجلة وجد السعدني ما كتبه منشوراً، فعاد إلى الشناوي، وأصبح محرراً براتب ستة جنيهات، وصارت بينهما صداقة طويلة وممتدة، ولقد منحته هذه التجربة الثقة فى نفسه، ودفعته بالتمسك أكثر بمهنة الصحافة.

فلقد انتقل مابين صحف مغمورة وصحف مشهورة، لذلك قرر أن يلتحق بركب الوظيفة الحكومية بعد أن وصفه بعض زملائه بأنه عاطل، فالتحق بوظيفة بمصلحة المساحة، وهناك خلق جواً من المرح فى المكان، لذلك تم فصله بعد ثلاثة أشهر بتهمة تحويله لمكان عمله إلى سيرك.

مما جعله بعد ذلك يتجه إلى عالم القصة القصيرة، ولقد أصدر مجموعته الأولى “السماء السوداء” في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وأصدر بعدها “جنة رضوان”، ولقد رسخت هذه المجموعة اسم السعدني ككاتب للقصة. هذا القبول الذى لاقاه شجعه أن يساهم فى كافة الفنون الأدبية بعد ذلك حتى منتصف التسعينيات..

فلقد كتب للمسرح: “عربة بنايوتي”، وفي أدب الرحلات: “الصعلوكي في بلاد الأفريكي”، “الموكوس في بلاد الفلوس”، “رحلات ابن عطوطة”، “أمريكا يا ويكا”، “مسافر بلا متاع” و”قهوة كتكوت” في عالم الرواية، وكتب كتبًا تتحدث عن نفسه وعن رحلته في الحياة: “الولد الشقي في المنفى”، “الطريق إلى زمش”، “مسافر على الرصيف”. وغيرها.

2-مسافر بلا متاع - محمود السعدني

أنا حمقري

هكذا يلخص السعدني كافة تجاربه في الحياة قائلًا: “زمان كان مدرس الحساب يعتقد أنني حمار وكنت أعتقد أنني عبقري. وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن المدرس كان على خطأ واكتشفت أيضًا أن العبد لله لم يكن على صواب، فلا أنا عبقري ولا أنا حمار، بصراحة أنا مزيج من الاثنين، العبقري والحمار. أنا حمقري!

ولأننى حمقري فقد كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلاس، ولأنني حمقري كنت أرفع شعارًا حمقريًا “أنا أضحك إذن أنا سعيد”، وبعد فترة طويلة من الزمان، اكتشفت أن العكس هو الصحيح، واكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة تفرقع على لسانه تفرقع مأساة داخل أحشائه، وأنه مقابل كل ابتسامة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه.

ولقد صدق، فرغم أنه كان من مؤيدي ثورة يوليو 1952، إلا أنه سجن عندما عاد من سوريا حاملًا خطابًا من “خالد بكداش” رئيس الحزب الشيوعي بسوريا، ليسلمه إلى الرئيس عبد الناصر، لكن صديقه طوغان نصحه بتمزيق الخطاب حتى لا يتورط مع النظام السياسي في ذلك الوقت، لكنه أصر وذهب لتسليم الخطاب إلى الرئاسة، فتم اعتقاله، وعندما سأله الضابط عن التنظيم الذي ينتمي له، قال لهم: “زمش”.

فتعجب الضابط من رده، فسأله: “يعنى أيه؟”

فرد عليه، مبتسماً:” “زمش” .. اختصار لـ: زى ما أنت شايف!”

3-الولد الشقى - محمود السعدني

أما فى عهد الرئيس “السادات” تم توجيه تهمة قلب نظام الحكم له، لكن بعد التحقيق الذى استمر لمدة يومين تم الإفراج عنه، وفوجئ فى نفس الوقت بقرار بفصله من جريدة روزاليوسف من الرئيس السادات، ومنع نشر اسمه فى الصحف بسبب بعض النكت التى رواها لأحد أصدقائه عن الرئيس.

حاول عثمان أحمد عثمان رئيس شركة المقاولين العرب تعيين السعدني بالشركة لكنه رفض قائلًا: “أنا صحفي وسأبقى صحفيًا وسأبعث يوم القيامة في كشف نقابة الصحفيين، فيمكن لأي أحد أن يصنع وزيرًا أو رئيسًا للجمهورية لكن ليس بإمكان أحد أن يصنع كاتبًا أو مطربًا لأن الموهبة منحة من الله”. لذلك سافر وعاش خارج مصر، متنقلًا “بلد تشيل وبلد تحط”! وعاد إلى مصر بعد رحيل السادات.

فالسعدني، عاش حياته يرى أن الإنسان المصري يولد إما باحثًا عن الضحك أو منتجًا له، لذلك قرر أن يكون منتجًا للضحك، فلقد تخصص في نقد سلبيات السلطة بشكل لاذع وساخر، مع مراعاته لتكوين جمل أدبية أنيقة ممتعة للقارئ، فهو يرى الحاكم كما في كتابه “مصر من تاني”: “القائد الحقيقي ليس هو الذي يقود في حياته، ولكن هو الذي يترك خلفه مصابيح تضيء الطريق من بعده”.

فهو يرى أننا: “نعيش في رقعة أرض واحدة ونتكلم لغة واحدة ونعبد إلهًا واحدًا، ومع ذلك فكل عشرة أمتار نحتاج إلى تأشيرة دخول وتغيير عملة وإقامة من دوائر الشرطة وأحيانًا نحتاج إلى كفيل.

ولدينا فوق ذلك عشرات الرؤساء وعشرات الملوك وعشرات الأمراء وبعض السلاطين، ولدينا حكومات ووزراء ومئات اللوائح والقوانين، وزمان في بلادنا خرج رجل بسيط فقير مندهش على الدوام اسمه ابن بطوطة خرج من طنجة بلاد الله لخلق الله وذهب من الجزائر إلى طرابلس ومن إلى.

ثم عاد من حيث جاء ولم يستوقفه أحد ولم يفتشه أحد ولم يسأله أحد إبراز الهوية أو الجواز، ونزل في كل مكان أهلًا وسهلًا آخر مرحب وآخر احترام ولقد تم هذا منذ ألف عام قبل حلول عصرنا. ياترى ماذا يحدث آلآن لو جاء ابن بطوطة آخر وأراد أن يلف بلاد العرب وأن يزور أبناء الارومة والعمومة والأعزاء؟ فلا بد أن يبحث عن كفيل في كل دولة! “. كما ذكر في كتابه “مصر من تاني”.

4-الموكوس فى بلاد الفلوس - محمود السعدني

فهذا هو الفرق بين أن تقرأ موسوعات كبيرة الحجم تحكي لك ما كان، عن أن تقرأ للسعدني ليحدث عن تجاربه فى كل بلاد زارها أو طرد منها بسبب آرائه، فهو يمتاز بالصدق وخفة الدم والقدرة المدهشة على ربط الحديث بالقديم في لغة ساحرة ملفتة للانتباه تجبر الجميع على الصمت والإنصات له.

ذو صلة

ولقد أنهى رحلته فى يوم 4 مايو 2010.

يمكنك تحميل أعماله من هنا

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

الكاتب محمود السعدني ولد بقرية أسريحة التابعة لوحدة بهناي المحلية بمدينة الباجور محافظة المنوفية .. وذكر هذا فى كتبه منهم رحلات ابن عطوطة وذكر أيضا اسماء قري مجاورة مثل سنتريس

ذو صلة