لماذا حيّرنا فيلم Arrival؟ شرح لواحد من أفضل أفلام الخيال العلمي مؤخرًا
يحكي الفيلم Arrival قصة اختصاصية اللغة لويز بانكس التي يكلفها الكولونيل ويبر بأن تساعدهم في تحليل لغة الكائنات الفضائية التي هبطت سفينتهم في مونتانا.
يقدم الفيلم رؤية مختلفة للتعامل مع تلك الكائنات، بحيث اختلف عن الرؤية التقليدية للأفلام التي تحدثت عن "غزو فضائي للأرض".
تستطيع د.
لويز التواصل مع سباعيي الأرجل، لتعلم لغتهم وتعليمهم الإنجليزية باستخدام بعض الوسائل البصرية المساعدة.
من خلال طرحها أنّهم خارج فهمنا التقليدي للزمن، يرونه من زاوية "كـلى المعرفة"، أو من البعد الخامس؛ البعد الذي "يرى" الأبعاد الثلاثة والزمن.
يقدم فيلم “الوافد Arrival” العديد من القضايا دون شرحها شرحًا وافيًا خلاله، فيظل علينا محاولة السعي للوصول للحقائق المختبئة خلف حبكته. الفيلم من بطولة إيمي آدامز، وجيريمي رينر، وفوريست ويتاكر، ويستند على رواية قصيرة من تأليف تيد تشيانج، ومن إخراج الكندي ديني فيلنوف. عُرض الفيلم في أواخر 2016، وترشح لثماني جوائز للأوسكار فاز بواحدة منها عن أفضل مونتاج للصوت.
فيلم Arrival… ووجه آخر لأفلام الخيال العلمي والمخلوقات الفضائية
يحكي الفيلم قصة اختصاصية اللغة لويز بانكس (إيمي آدامز) التي يكلفها الكولونيل ويبر (فوريست ويتاكر) بأن تساعدهم في تحليل لغة الكائنات الفضائية التي هبطت سفينتهم في مونتانا. تظهر د. لويز دهشتها في البداية، لكنها تتطوع لأداء المهمة بروح وثّابة، ورغبة حقيقية في التعلّم، وتواضع يجعلها قادرة على إنقاذ الأرض -وبالتالي مساعدة الفضائيين- في النهاية.
المقالة تحتوي على حرق لبعض الأحداث
لماذا أراد الكولونيل ويبر، وإلى جانبه الدول الاثنتا عشرة التي هبطت على أرضها السفن الفضائية، التواصل مع تلك الكائنات وبالتالي استعانوا بعلماء اللغة؟
سؤال مهم، يوضحه شعار الفيلم “Tagline” لماذا هم هنا؟
من بداية هبوط السفن الفضائية الغريبة التي تشبه عدسة العين المحدبة، وهي لا تنوي شرًا، وإلاّ كانت قد دمّرت الأرض أو الأماكن التي نزلت فيها. لم تكن لتنتظر يومين، ولا أن تعيّن مواعيد محددة للزيارة: كل 18 ساعة، تُفتح الأبواب لمدة ساعتين، ويحاول الأرضيون التواصل مع الفضائيين.
لذلك، كان على الحكومات الاستعانة بعلماء اللغة لمحاولة الإجابة على هذا السؤال: ماذا تفعلون هنا وماذا تريدون منا؟
منذ العرض الأول للفيلم في مهرجان تورنتو السينمائي، استقبله النقاد بحفاوة كبيرة، باعتباره أفضل فيلم خيال علمي على مدى عقود، وسبب الترحيب هو الرؤية المختلفة التي يقدمها الفيلم للتعامل مع تلك الكائنات، بحيث اختلفت عن الرؤية التقليدية للأفلام التي تحدثت عن “غزو فضائي للأرض”، فلم يقتصر الأمر على محاولتهم قتل البشر واستعمار الكوكب، أو محاولتنا التخلص منهم كما في فيلم “حرب العوالم War of the Worlds” من بطولة توم كروز، بل شمل المحاولة العقلانية الهادئة -من جانب د. لويز وزميلها د. إيان عالم الرياضيات- للتفاهم مع تلك الكائنات، بينما امتدت ردود الفعل التقليدية من الدول الأخرى لتشمل حصارهم بالجيوش وحاملات الطائرات، ومحاولة الجنود الأمريكيين المصاحبين للعالِميْن تفجير السفينة، تحت ضغط مما يبثه التلفزيون من استفزاز للوطنية والخوف لديهم.
كما امتدت جهود الفيلم لتشمل إشراك المشاهدين في التحليل والاستنتاج، فلم يقدم حلولًا جاهزة، بل افترض في المتلقي الذكاء الكافي ليحاول بنفسه فهم القضايا الفكرية والفلسفية التي طرحها الفيلم، وفي هذا أمتدحه وأثني على صُنّاعه؛ لأنّي أحب من يحترم عقلي ويستفزه للتفكير والبحث عن المغزى الكامن للأحداث والكلمات التي عُرضت أمامي على الشاشة.
من هم الكائنات الفضائية؟
بعد المشاهد الافتتاحية للفيلم، نرى د. لويز في قاعة المحاضرات تحاول أن تلقي درسًا عن اللغة المجرية، لكن تقاطعها رنّات الهواتف المحمولة للطلبة، وطلب إحداهن منها أن تفتح قناة الأخبار في التلفزيون. نشاهد مع البطلة أنباء هبوط تلك السفن الغريبة في 12 موقعًا من الكرة الأرضية، وأنّها لم تقم بأي عمل عدائي حتى الآن.
بعد يومين، نعرف أنّ السفن لا تتواصل فيما بينها بأي انبعاثات إشعاعية أو موجات اتصال معروفة، ولا تترك أثرًا مدمرًا على الأرض. من الواضح إذًا أنّها جاءت بهدف واحد: التواصل، حتى إنّها أعدت قاعة للاستقبال بها أكسجين يكفي ساعتين، ثم تستغرق 18 ساعة أخرى “للتعافي” من تأثير معادلة الجاذبية والجوّ الملائم للأرضيين.
تحتوي السفن على كائنات عملاقة أشبه بأخطبوطات، حتى إنّ د. إيان اقترح تسميتها بـ”سباعيي الأرجل Heptapodes” الكلمة المشتقة من اللاتينية، وأطلق على الكائنين اللذين يتواصلان معهما دائمًا اسمي “آبوت” و”كاستيللو”.
ماذا عن لغة سباعيي الأرجل؟
بتوظيف بعض الوسائل البصرية المساعدة، التي استخدمتها لويز بعبقرية وبساطة تعليم طفل لغة جديدة، استطاعت التواصل مع سباعيي الأرجل، لتعلم لغتهم وتعليمهم الإنجليزية.
عندما نرى على الشاشة أبوت وكاستيللو يحاولان “نطق” اسميهما، فيطلقان أصواتًا مثل الحيتان الأرضية، ويخرجان من أذرعهما دفقة من الحبر تشكل دائرة غير تامة الاستدارة، نعرف أننا أمام لغة تختلف تمامًا عن أي لغة أرضية معروفة لنا. تصبح أمام لويز مهمة معقدة: كيف تكسر تلك الرموز لتحوّلها إلى كلمات مفهومة بالإنجليزية؟
تطرح العالِمة اللغوية نظرية جديدة وبالغة الأهمية هذه الكائنات لا ترى الزمن مثلنا، وبالتالي يختلف تعبيرها اللغوي عن تعبيراتنا.
فلنلقِ نظرة إلى معظم اللغات الحديثة يمضي أغلبها في سطر واحد، من اليمين لليسار أو العكس، ما يعني أنّ البشر ينظرون للزمن نظرة خطية يسير في خط واحد، من الماضي إلى الحاضر وإلى المستقبل. لا يمكنك العودة إلى الماضي ولا استباق الزمن للمستقبل، بل أنت “محشور” في هذا الخط الذي يمضي بكَ شئت أم أبيت.
لكن اللغة التي طرحها سباعيو الأرجل لا تمضي بهذه الطريقة، بل إنّها رموز دائرية، قد يعني الرمز منها جملة كاملة أو شعور معيّن، وقد استنتجت د. لويز من هذا أنّهم خارج فهمنا التقليدي للزمن، فهم يرونه من زاوية “كلية المعرفة”، أو من البُعد الخامس؛ البُعد الذي “يرى” الأبعاد الثلاثة التقليدية المعروفة للبشر: الطول والعرض والارتفاع، ويُضاف إليهم البُعد الرابع وهو الزمن.
نفس الطرح الذي قدّمه فيلم “بين النجوم Interstellar”، حين تطلّع البطل في ثلثه الأخير إلى شريط يدور أمامه، وهو الزمن الخطي الذي نعرفه، وقرر أن يتدخل كي يرسل لابنته الرسائل. نفس الطرح يقدمه فيلم “الوافد”، حينما نعرف في النصف الثاني من الفيلم مهمة الفضائيين، وهي تقديم “سلاح” إلى لويز، سلاح المعرفة وإمكانية رؤية المستقبل.
ماذا يريد سباعيو الأرجل؟ هل هم هنا لتقديم “هدية” للأرضيين، متمثلة في لغتهم فحسب؟
كلا، فربما نبع مقصد مهمتهم من مساعدة الأرضيين على تغيير طريقتهم لإدراك الزمن عن طريق تعليمهم لغة الفضائيين، أو لمنع الأرضيين من خوض حرب عالمية جديدة، عن طريق توحيدهم معًا، كما يظهر من المؤتمر الأخير الذي تظهر فيه د. لويز متحدثة فيما يشبه مؤتمرات الأمم المتحدة.
كما يوضح كاستيللو أنّ سباعيي الأرجل بحاجة لمساعدة الأرضيين بعد 3 آلاف عام من عمر الأرض. كيف عرف ما سيحدث بعد 3 آلاف عام؟ هذا يؤكد أكثر نظرية أنّ تلك الكائنات تعيش في البُعد الخامس كُلّي المعرفة، الذي يرى الزمن أمامه في شكل دائرة، وعلى ذلك فقد اتخذت لغته شكل الدوائر التي انتفت فيها الأفعال التي تدلّ على الزمن من مضارع ومستمر وماضٍ، وأصبحت أفعالًا جامدة.
بهذا التصريح، كاستيللو يمهّد الطريق للتعاون المستقبلي بين سباعيي الأرجل وبين الأرضيين، وذلك بمساعدة لويز على تعلّم لغتهم. ولهذا، فقرب نهاية الفيلم عندما تزوره بمفردها في الجوّ الغرائبي للسفينة الفضائية، تستوعب تمامًا لغتهم وطريقة تواصلهم، وبذلك ترى الزمن من نفس البُعد كلّي المعرفة الذي يرى سباعيو الأرجل الزمن منه.
لحظة واحدة: هل معرفة لغة جديدة تؤثر على إدراكنا للزمن؟
ليس كذلك بالضبط. يدور الجزء المحوري في الفيلم حول نظرية النسبية اللغوية، تُدعى فرضية سابير-وورف، التي تفترض أنّ اللغة التي نتحدثها تعكس الطريقة التي نفكر بها أو تشكّلها الموجودات حولنا.
لقد درس كل من بنجامين وورف Benjamin Whorf، وإدوارد سابير Edward Sapir اللغات الأمريكية المحلية، وقد دعمت فرضيتهما التي تقول إنّ اللغة لها أثر قوي على الفكر، وبناءً على هذه الفرضية بدأ بنجامين وورف دراسة اللغة الهوبية Hopi language، وحسب رأيه فإنّ اللغة الهوبية ليس بها أي كلمات أو تراكيب نحوية أو تعبيرات تشير إلى مفهوم الوقت، ووجد وورف أنّه من الممكن التعبير عن الوقت بطرق أخرى يستخدمها الهوبيون -شعب من الهنود الحمر الذين يعيشون شمال أريزونا، وتنحدر لغتهم من الأصول الأزتيكية- وقدم هذا المثال لدعم فرضيته بأنّ اللغة تؤثر على طريقة تفكير المتحدث بها.
وتقترح الفرضية أنّ اللغة التي نتحدثها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحقائق التي نختبرها، وفي منتصف الفيلم تقريبًا يسأل إيان لويز إذا كانت تحلم باللغات المختلفة التي تدرسها، ويتضح لنا أنّه كلما تعلّمت لويز المزيد من لغة سباعيي الأرجل وطريقتهم في التواصل، زاد ما تراه من رؤى مستقبلية، حيث يندمج عالم الأحلام في تتابع دائري لترى لويز المستقبل وهي في الحاضر، الأمر الذي يغير من إدراكها للزمن والذاكرة.
وقد عارض لغويون كثيرون الفرضية ودحضوها، لكنها ما زالت تشكل مادة خصبة لأفلام الخيال العلمي.
لماذا إذًا كان هناك 12 سفينة فضاء وليست واحدة فقط؟
لمّا كان الخطر محدقًا بعالم سباعيي الأرجل (تذكر أنّه مع اختبار الزمن من البُعد الخامس، تصبح 3 آلاف عام على بعد ثوانٍ)، فقد نوت السفن الاثنتا عشرة أن تعلّم كل البشرية لغتها وبالتالي تدخلهم في مفهوم الزمن الدائري مثلها، وعلى الرغم من نوايا سباعيي الأرجل الحسنة ومحاولاتهم، فإنّ لويز وحدها هي من استطاعت بتواضع وذكاء كبيرين أن تستمع إليهم وتتعلم منهم حقًا.
إدراك لويز بأهمية الأحداث المستقبلية في تغيير الحاضر
بمجرد أن يبدأ الفيلم، نرى مشاهد لولادة ابنة لويز ثم إصابتها بمرض غريب ثم وفاتها. نظن أنّ هذه مشاهد سابقة على أحداث الفيلم، عُرضت بتقنية “الفلاش باك”، لكن عندما نتوغل في العرض أكثر يتضح أنّها ليست كذلك، بل إنّها تحدث في نفس وقت وقوع الأحداث في “حاضر” لويز، بدليل أنّها تستطيع مساعدة الابنة في حلّ واجب منزلي بإعطائها لفظة “تعادل Zero-sum game” في نفس اللحظة التي ينطقها أحد الأبطال أمامها، كما أنّها تعرف ما سيقوله لها الجنرال شانج، قائد القوات الصينية في المستقبل، وبالتالي تتصرف على هذا الأساس في الحاضر. لعبة معقدة جدًا لكن يمكن توضيحها بأنّ اكتساب اللغة ساعد لويز على رؤية الزمن في شكله المتحرر من رؤيتنا نحن له.
ماذا قالت لويز للجنرال شانج في الهاتف ليغيّر من رأيه؟
ذكرت له كلمات زوجته الراحلة: “الحرب لا تصنع أبطالًا، بل ينتج عنها فقط الأرامل.”
كيف حصلت على هذه المعلومات الخاصة؟
يبدو أنّ الجنرال شانج نفسه قد سافر إلى المستقبل ليخبر العالِمة اللغوية بهذه الكلمات، كي تساعدها على أن تخبره بها في الحاضر، وبالتالي تقنعه بأن يغيّر رأيه في مسألة الحرب على الفضائيين.
إنّ بصيرة لويز هي المكوّن الأساسي لإقناع شانج بهدية سباعيي الأرجل، أي بالطبيعة النسبية للزمن، وبضرورة اتحاد المجتمع الدولي في بوتقة واحدة.
لكن، ماذا عن الإرادة الحرة؟
عندما يسألها زوجها المستقبلي إيان، “هل تريدين أن نصنع طفلًا؟” تظهر عليها السعادة البالغة، رغم معرفتها بأنّ تلك الطفلة ستصاب بمرض نادر وستموت، وأنّ إيان سينهار لدى اعترافها له بمعرفتها المسبقة بهذا المصير، ويخبرها بأنّها “اختارت خطأ” ويتركها وينهار زواجهما. ربما يرى بعض المشاهدين أنّها فعلًا لم تحسن الاختيار، لكن المخرج والكاتب صنعا شخصية تمثلنا جميعًا، إذ أنّ كل انتصاراتنا العظيمة ستنتهي معنا نفس النهاية المحددة مسبقًا: الموت.
يتبنى فيلم “الوافد” شعار الكاتب الأمريكي المشهور رالف والدو إيمرسون “الحياة رحلة، وليست المحطة النهائية”. في الفيلم، ليس من المفروض تنفيذ ما رأته لويز في المستقبل، لكن أيضًا لا توجد حماية من الموت، ويطرح الفيلم سؤالًا بسيطًا: إذا استطعت رؤية حياتك في شكل قصة واحدة يحكيها رمز دائري، هل كنت ستغيّر فيها أي شيء؟
لا تختار لويز أن تغيّر أي شيء، بل تتجه لمعانقة الحياة بكل مباهجها وخساراتها، عالِمة بأنّ الرحلة تستحق الكثير من أجلها وحدها، وليس من أجل محطتها النهائية.
وهكذا عزيزي القارئ، يقدم الفيلم عدة قضايا تشغل الفِكر بعدما تنتهي من مشاهدة الفيلم، فلا يحقق لك مبدأ المتعة الفنية فحسب، لكن يضيف إليها أيضًا المتعة العقلية، وطرح مسائل تساعد الجمهور على فهم نفسه أكثر، وفهم العالم من حوله.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
شكرا فعلا للمراجعة الجبارة دي وتوضيح ابسط التفاصيل … دمتم موفقين D: