الحرية مقابل القدر.. هل نحن أحرار في اتخاذ قراراتنا أم يتحكّم بنا القدر؟
6 د
"أنا حر" جملة مختصرة وكافية لجعلي أنسحب من أي نقاش، إنها وبلا شك تعطيني انطباعاً سريعاً عن الشخص الذي يتحدث، فإما هو شخص واعٍ يعرف ما يريد، أو أنه محض متبجحٍ أحمق لا أكثر.
عندما أفكر بالحرية بعيداً عن المجتمعات البشرية، يتسلل إلى ذهني رائحة مياه البحر وأصوات حوافر قطيعٍ من الخيول تعدو على شاطىءٍ صافٍ لا حدود واضحةً له، ثم أتذكر فجأة أنني إنسان ولا استطيع العدو كالخيول ولا التحليق كالنسور. حريتي أمامها ألف سيفٍ ولها ألف تعريف، ارتكبت باسمها أشنع الجرائم في التاريخ. إنها لا تختلف عن تمثال الحرية الذي ينتصب بفخرٍ فوق جماجم الهنود الحمر، أو عن غيفارا الذي قتل على يد من حارب لأجلهم، أو عن برونو الذي تم حرقه حياً لأنه خالف الكنيسة.
فهل نحن فعلا أحرار؟ أم هناك أيدٍ خفية نسميها القدر تجعلنا نفعل ما نريد تحت وهم الحرية، عندما نقول حرية و قدر لابد أن ندخل إلى عالم الأديان الواسع ونرى رأي كل دين في هذه القضية المعقدة
ماذا تخبرنا الأديان عن العلاقة بين الحرية والقدر؟
ظلت مفاهيم الحرية والقدر تطرح نفسها بقوة في أذهان الناس. فكم منا وجد نفسه يتساءل: هل أنا حر في قراراتي واختياراتي، أم أن هناك قوةً عليا تقودني نحو مصير محدد؟ لم تتجاهل الأديان هذه المسألة، وأحضرت لها جوابًا من منظورها الروحي:
الديانة اليهودية
يخاطب الله الإنسان في التوراة ويقول له "لقد وضعت أمامك الخير والشر، والحياة والموت.اختر الحياة!" بدون الإرادة الحرة لن يكون هناك أي هدف للحياة، عند اليهود نحن نعيش حياة ذات معنى من خلال قراراتنا المتعمدة، يقول الله: "إن هذا الإنسان فريد من نوعه، له عقل يختار ما بين الخير والشر، ما يمكننا أن نختاره هو إذا كنا سنطيع مشيئة خالقنا، أو نتجاهلها، أو حتى نتجاوزها وبذلك نحدد دورنا في القصة.
سواء حدثت الأشياء الجيدة بسببنا، أو على الرغم منا، فكل ما سيحدث يبقى ضمن قصة الرب التي تتجلى بطرق لا حصر لها، لكن الخالق هو من يقرر أحداثها. يقول المدون العظيم للشريعة والفكر اليهودي في القرن الثاني عشر، فيكتب: "هل يمكن أن يحدث شيء في العالم غير ذلك الذي أراده صانعه؟" ويكمل "النار تحرق لأن الرب يريدها أن تحترق، يتدفق الماء لأن الرب يريده أن يتدفق، كذلك فإن البشر لديهم إرادة حرة لأن الله أراد لنا أن تكون لدينا إرادة حرة ليس هناك أي تناقض.
الديانة المسيحية
أما الاعتقاد السائد في الإيمان المسيحي هو أن البشر مخلوقون على صورة الله، ويمتلكون حرية تشبه حرية الله الإبداعية. الإرادة الحرة هي ما يميزنا عن باقي المخلوقات ولا يوجد في الكتاب المقدس ما يؤيد فكرة القدر المكتوب الذي يجعلك مسيراً. بينما الإيمان المسيحي يؤمن أن الإنسان مخير، ابتداءً من آدم، حين قال له الرب الإله:" من جميع شجر الجنة تأكل، إلا شجرة معرفة الخير والشرّ".
الديانة الإسلامية
نصل أخيرا للدين الإسلامي الذي يدخل في عمق إيمانه ما يسميه المسلمون "القضاء والقدر" فهما متلاصقان ولكن مختلفان، فالقدر في الإسلام هو أفعال العبد التي سيقوم بها بحرية في المستقبل، والتي يختارها بكامل إرادته، ولكن بعلم الله المسبق سبحانه وتعالى فقد منح الله الإنسان إرادة حرة لتكون أساس التكليف والابتلاء، أما القضاء فهو مآل الحدث والوقائع المنقضية والأحكام الإلهية النافذة، كالولادة والموت والرزق والصحة والمرض، أي أن القدر هو الكيفية والقضاء، هو النتيجة يقول تعالى في القرآن : (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).
ها هي الأديان اتفقت على حرية الاختيار عند الإنسان ما بين فعل الخير والشر، اختيار الصدق أو الكذب، الكراهية أو الحب، لكن تحت مظلة الله الذي يختار ولادتك وموتك ،والديك، لون عينيك مرضك وعافيتك ومصير حياتك، مؤكدا أن ماتختار أن تفعله بإرادتك الحرة هو ما سيوجه قدرك نحو مصيرك في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة.
لكن.. هل يناقض العلم الأديان؟
تُظهِر فحوصات الدماغ الحديثة أن النشاط اللاواعي يحدث قبل ثوانٍ قليلة من ظهور النشاط الواعي في مناطق أخرى من الدماغ. يبدو أن العقل الباطن هو الذي يقرر أولاً، حتى عندما نعتقد أننا نتخذ خياراً واعياً، يبدو أن القدر يتدخل في الموضوع ، مثلا؛ وفقًا لمبدأ عدم اليقين: من المستحيل معرفة الموقع الدقيق للجسيم وحركته في نفس الوقت.
يمكن لأدنى تصرفٍ أو تدخل، أن يجعل الجسيمات الصغيرة تتصرف بشكل مختلف. المعنى: اختياراتنا تغير أقدارنا، فجميع الأحداث، حتى الأحداث الكمومية، لها نقطة بداية ونهاية محددة. لكن هناك حالة من عدم اليقين بشأن ما يحدث بينهما. فهل يمكننا أن نتحدث عن حرية الانسان وعلاقتها بقدره دون أن نأخذ رأي الفلاسفة في هذه المعضلة الفلسفية عبر التاريخ؟
هل اعتبر الفلاسفة الإنسان حرًّا أم مكبلًا بسلاسل القدر؟
يعتبر المعلم الأول للفلسفة أرسطو أن الإله خير مطلق، وهو بمعزل عن هذا الكون وليس التقدير من شأنه، والشر موجود في هذا العالم بحكم الواقع ولا يصدر عن الإله. وأننا نحن كبشر نملك سيطرة جزئية على مجالاتنا الشخصية، وبالتالي فإن مصيرنا لا يعتمد بالكامل على أمر مكتوب مسبقًا، إنما يعتمد على قانون الضرورة واتفق أرسطو على أن الأحداث، عندما تقع تكون ضرورة.
فما يحدث أو لا يحدث يمكن ربطه جزئيًا بإرادتنا الحرة، أي أننا نحن من نقرر مصيرنا. بنفس الوقت يعتبر أن تفوق الإنسان وبزوغه ليس صدفة. فهو دائمًا نتيجة نوايا حسنة وجهد صادق وتنفيذ ذكي؛ إنه يمثل الاختيار الحكيم للعديد من البدائل والاختيار وليس الصدفة هو الذي يحدد مصيرك.
يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس "الشخصية هي القدر" حيث يرى هذا الفيلسوف أن القدر، ليس قوة خارجية محددة مسبقًا، ولكن شخصية الفرد وسماته هي مايحدد مصيره ومستقبله . بذلك يتفق نوعاً ما مع أرسطو في فلسفته
ويرى الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» أن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح حرة، وعليها أن تجاهد هذا الجسد وتتحرر منه وتلتمس العون من الله على هذا الجهاد ومن تلاميذه من يقول: إن الإنسان حر فى أفعاله، ولكن الله يعلم منذ الأزل ما سوف يفعله، لأنه عليم خبير.
ويرى الفيلسوف «سبينوزا» أن كل شىء يقع فى الدنيا إنما كان لا بد أن يقع كما وقع، لأن كل شىء يصدر عن طبيعة«الجوهر السرمدى».. وهو الله. وأن ما فى الدنيا من خير وشر هو على السواء من إرادة الله. وأن ما يبدو لنا شرا سببه أننا محدودون بالحدود البشرية .. أما الجوهر السرمدى فلا يعرض له النقص ولا تتصل به الأشياء إلا على وجه الكمال .
ويقوم مذهب «شوبنهور» على أمرين أساسيين هما: "الإرادة والفكرة" ولكن الإرادة عنده هي مصدر الشر كله فى الكون وفي الإنسان. والإرادة فى الكون توحي إلى إرادة الإنسان أن يسعى إلى المتعة واللذة ويعاني كي يصل إليها، وأنه يظل أسيرًا لهذه الملذات البشرية المؤقتة التى تعزله عن حقيقته السامية، حتى ينتقل إلى عالم الفكرة فينجو من عالم الفكـرة وينتقل إلى عالم السكينة و« العموم » الذى لا تنازع فيه بين أجزاء وأجزاء، ولا بين إرادة وإرادة.
في الحقيقة إن كل الأسئلة الجوهرية في حياتي شخصياً لم أجد لها جواباً حاسماً في كتاب أو عند فيلسوف، لكني تعلمت شيئاً مهماً من عرافة كانت تجلس على حافة الرصيف، طلبت مني أن أفتح يدي لتقرأ لي خطوط القدر، لكنها لم تنظر إلى كفي بقدر ما تأملت وجهي، سألتها باستغراب هذه يدي فلم تفحصين وجهي، ضحكت وقالت مشيرةً إلى كفي :هذه مجرد خطوطٍ باهتةٍ لها أكثر من معنى، أما مستقبلك ترسمه الآن في هذه اللحظة نبرة صوتك، إرادة قلبك وتلك القوة التي تشع من عينيك.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.