تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

نساء الكرنتينا: بين الماضي والحاضر والمستقل عالم فاسد، عالم سافل!

نساء
محمد عبد الرزاق
محمد عبد الرزاق

6 د

قد يكون سؤال: ماذا سيحدث في المستقبل؟ هو أحد الأسئلة التي تشغل بال العالم كله دون استقرار على إجابة واحدة مشتركة. في مصر يطرح السؤال بصيغة مختلفة لكنها تؤدي نفس الترقب، ففي أي شارع لا بد أن تستوقفك مرة يوميًا على الأقل جملة “رايحة بينا على فين يا بلد؟”. وطبعًا فإن الإجابة على هذا السؤال لا تخرج بأي حال من الأحول متفائلة أو متوقعة لشيء جيد، بل إن كل الإجابات -على اختلافها- فهي مغرقة في التشاؤم، وعدم الاطمئنان لما سيحدث في المستقبل، سواء القريب أو البعيد. من هذا التمازج بين محاولة التنبؤ بالمستقبل والتشاؤم به، يأتي لنا “نائل الطوخي” في رواية “نساء الكرنتينا” بحكاية الكرنتينا، ونسائها، بل ورجالها أيضًا.


نساء الكرنتينا: حيث العالم في صراع دائم

رواية نساء الكرنتينا

تبدأ قصة رواية “نساء الكرنتينا” بمشهد شبه سينيمائي، في مدينة الاسكندرية، لكلب يجري في عالم خرب فتصدمه سيارة، ثم تتبعه كلبة تتشمم الطريق بحثًا عنه، لنكتشف أننا في العام 2064، ثم نعود فلاش باك إلى بداية الحياة، قبل خراب العالم، في العام 2006، لنتعرف على حكاية ثلاثة أجيال متتابعة، أو بالأدق لنشاهد الملحمة التي حاول نائل الطوخي رسمها للاسكندرية من خلال حياة شخصياته المتشابكة.

في القسم الأول من الحكاية، والمعنون بـ “أحلى عروسين”، نسير وراء علي، تاجر الملابس، الذي يرتبط بإنجي، ابنة عمه العائدة من الخليج، تبدأ حياتهما بالسير في خط تقليدي، حتى تحدث الصدفة التي تفرض عليهما الهرب إلى الاسكندرية، هناك حيث يتعرف علي على الإخوة أبو أميرة وعادل وسوسو. يكبر علي، وتكبر معه إنجي، ويشكلان معًا إمبراطورية اقتصادية كبيرة، تتحدى سطوة الحكومة، وتحاول أسطرة نفسها من خلال البحث عن تاريخ العائلة وتاريخ الاسكندرية أيضًا، ولا يجد لها علي أفضل من اسم الكرنتينا.

تتطور الأحداث وينشق سوسو، الأخ الأصغر لـ أبو أميرة، عن علي. يصنع سوسو إمبراطوريته الخاصة به، التي تنازع الكرنتينا على السيطرة على حاضر الأسكندرية ومستقبلها، بل وتاريخها أيضا، ويدعوها سوسو “الكربنتينة”. حيث يشتد الصراع بين الكرنتينا ونظيرتها الكربنيتنة في القسم الثاني من الحكاية، والمعنون بـ “قصة قاتل”، يحاول كل فريق منهما خلق تاريخه الخاص، من خلال إبراز أسطورة معينة من أساطير المدينة الشعبية، ومحاولة تلميعها وتسليط الضوء عليها، مع قذف أسطورة الفريق الآخر بأبشع التهم، ليتخذ التاريخ الشعبي لحواري الأسكندرية وجهين متناقضين تمامًا، كل يرويه حسب هواه ومصالحه الشخصية. لكن الكرنيتنا تصبح أضعف بتقدم سن علي، ثم بموته غرقًا، ليرثه ابنه الوحيد حمادة، فيدخل في صراع مباشر مع كربنتينة سوسو، ثم ينتهي القسم الثاني بمعركة دامية تقضي على كل منهما، وعلى قوة الكرنتينا والكربنتينة معًا.

في القسم الثالث من الحكاية، يجري بنا الزمن، يتناسى الناس نضال علي وحمادة وسوسو ضد الحكومة، التي تعود وتفرض نفسها على المشهد، بينما الجيل الثالث من الحكاية، وهم ابنتي حمادة “لارا ويارا”، وابنة سوسو أميرة، يجدون أنفسهم غريبين وسط العالم الذي أنشأه آباؤهم.

يعنون نائل القسم الأخير من حكايته باسم “تمكين المرأة” أو “قصة سبع نساء يحكمن العالم”. تعود الحياة لهدوئها بعد زوال الإمبراطوريتين، ويصير أبناء الأعداء أصدقاء. لكن الصداقة لا تدوم، فتصبح الفتيات أعداءً من جديد، ليسرن في نفس الطريق الذي سلكه الآباء من معاداة الحكومة ومحاولة إنشاء الأسطورة الخاصة بكل منهن. وفي خضم تلك العداوة والتجهيز للمعركة الفاصلة التي ستقضي على فريق من الاثنين للأبد، لا يتوانين عن التساؤل عن التاريخ، ما الذي حدث؟، وكيف حدث؟ لكن الإجابات من المحيطين بهن لا تأتي متوافقة مع ما عشناه نحن في الفصول الأولى من الرواية، كل شخص يحكي كما يرى، وكما يشعر هو، حتى نصل للمعركة الفاصلة، التي تنتهي بانفجار عظيم يدمر الحياة بأكملها ويعود بنا لمشهد البداية، الكلبة، والكلب الميت، والخراب.


“إن السكندري يتهيب شيئين، القاهرة، والآلة الحاسبة. يمكن القول إن السكندري، قبل ظهور علي وإنجى في حياته، لم يتخل عن حلمه القديم، أن تعود الاسكندرية، مدينته الحبيبة التي تحتضن العالم الحر في الشمال، لتكون هي العاصمة، كما كانت في أيام مجدها الغابر، لا القاهرة.”

نساء الكرنتينا - نائل الطوخي

الكرنتينا: هنا دولة وسلطة بتحكمها..

يقول “نائل الطوخي” عن روايته أنها جائت نتيجة لحلم رآه. لكن حكاية الكرنتينا ليست حلمًا، بقدر ما هي كابوس مليء بالسخرية والعبثية، يطارد فيها نائل شيئين، الأسطورة والتاريخ الشعبيين.

في هذا الكابوس لا تظهر الأسكندرية بصورتها الذهنية التي نعرفها، الترام الأصفر الزاهي، والبحر الازرق الفسيح، والعمارة اليونانية، والجو الأوروبي الجميل؛ الأسكندرية هنا هي مدينة الأحراش والحواري، تجار السلاح والمخدرات، المشايخ الذين يبيعون فتيات الهوى، الاسكندرية هنا هي المدينة المستعصية على الفهم، والثائرة على مركزية القاهرة، هي المكان المناسب تمامًا لخلق أسطورة شعبية يلتف حولها الناس.


“في الحقيقة، فقد آمنت كل شعوب العالم بالمخلص في وقتٍ ما، وبالأخص في عصور الانحطاط، عندما لا يتبقى أمامها أي أمل سوى الأمل”


الكرنتينا: من يمتلك التاريخ الحقيقي؟

بعدما تنشأ أسطورة علي وإنجي ويظهران بمظره المخلص، يبدآن في البحث في التاريخ عن أصل العائلة، بتتبع جدهما بخيت، يصل علي إلى رواية، وتصل إنجي إلى رواية مختلفة تمامًا؛ تناقض التاريخ يتكرر أكثر من مرة، كما في قصة حربي، بلطجي الاسكندرية الأول، وقصة نادية واعتماد أيضًا، التاريخ يختلف من لسان إلى لسان، ومن جيل إلى جيل، القصة الواحدة لها مائة تفسير وتبرير، هذا لا ينطبق على الأحداث التي مرت عليها عدة قرون، بل الأحداث التي تتشابك مع حياتنا العادية، أو ألعاب السياسة اليومية.

هكذا وضع نائل الطوخي يده على النقطة الأبرز في حكايته، ثم عرضها بطريقة الراوي، ليس العليم فقط، وإنما السارد متشبهًا بشعراء الربابة، وحكائي القرى، الذي يحفظون الأحداث، ويجلسون على المقاهي ليرووها للأجيال التي لم تعاصرها، ولإتقان تلك تلك الرؤية، كانت اللغة في الحكاية مختلفة تمامًا. اللغة لم تكن فصحى تمامًا، وإنما فصحى مطعمة ببعض العامية، وبدون فواصل أو تنصيص حول جمل الحوارات، حتى لكأنها تصير فصحى مكسرة، أو “فصحامية” في مقاطع كاملة من الحكاية.

لا يمكن الجزم إن كان يقصد نائل الطوخي تلك الطريقة من خلط الفصحى بالعامية الدارجة، مع ذكر الشتائم بألفاظها السوقية تماما، وذكر الأسماء بطريقة نطقها الشفاهية، لكن في نهاية الحكاية يظهر بوضوح أنها الطريقة الأنسب لعرض التاريخ عندما تحرفه الألسنة، ولكأن رواية نساء الكرنتينا في النهاية هي سيرة شعبية تحدث في العقد السادس من هذا القرن.

قد يؤخذ على رواية “نساء الكرنتينا” عنوانها المضلل نوعًا ما، فالنساء وإن كن فاعلات في أحداث الحكاية من أول لحظة، بل والقسم الثالث مبني تماما عليهن، إلا أنهن ليس الفاعلات الوحيدات، بل وينحسرن تمامًا في أجزاء كاملة من الحكاية. كما وأنه مع مرور الزمن في الحكاية، ودخولنا إلى عام 2064، إلا اننا لا نشعر بفرق كبير بين عام 2006، ولا عام 2016، كأن الكاتب لم ينتبه إلى حتمية تغير هائل في وسائل الاتصال والتكنولوجيا.

بعض شخصيات رواية “نساء الكرنتينا” كان لها ردود أفعال مجنونة بل ومتناقضة بشكل حاد أحيانًا، لكن قد تكون هذه نقطة مبلوعة نوعًا ما ومفهومة في ذلك العالم المجنون بأكمله، والذي لم يتحمل جنون أبطاله وتزييفهم المطرد لتاريخهم فانفجر بهم، حتى لا يسعنا التساؤل: هل نملك التاريخ حقًا؟ وفي الأخير “أمة بلا ذاكرة ولا تاريخ، هي أمة بلا مستقبل”.

اقرأ أيضًا للكاتب محمد عبد الرزاق:

ذو صلة

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة