تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

حكمة الجهل: الجانب المُضيء مِن عدم المعرفة

سقراط
عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

8 د

قد يشكّل الجهل نعمةً لصاحبهِ إلا أن هذا لا يعني أبدًا أننا يجب أن نحتفل بالغباء، خصوصًا في وقتنا الحالي الذي باستطاعة أي أحدٍ فيه الدخول لمحرّك البحث غوغل والإجابة عن السؤال الذي كان قد دارَ في الخاطر. حينها ما الذي بتنا نريده من المثقفين والمفكرين الكبار في الوقت الذي أصبح فيه تلميذ المدرسة بإمكانه الدخول لأكبر مخزون معرفي مِن خلال ضغطة زر بسيطة؟ وحتى في هذا الزمن من السيولة المعرفية، سوف نُصدم إذا ما قررت لجنة جائزة نوبل منح الجائزة لفريق من الباحثين الذين فشلوا بشكل تام دون النظر لعدد السنوات التي عملوا بها. إلا أن هذه الحالة يُنظر لها بشكل مختلف في الفلسفة خصوصًا أن سقراط (399 – 470 قبل الميلاد) كان قد اشتهر بادعائه ذائع الصيت: «الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني لا أعرف شيئًا». فلماذا لا يزال العالم يبجّل شخصية سقراط ويمدحها رغم اعترافه الشخصي بالجهل وعدم المعرفة؟

علينا أن نعي أن الجهل السقراطي لم يكن يُؤخذ بشكل جدي بين مُعاصريه، خصوصًا أنهم تعرّضوا للإحباط بسبب تحقيقاته الفلسفية التي حكمت عليه بالموت في النهاية. إذ خلال محاكمته أدعى سقراط بأنه سعى نحو الحكمة على الرغم من كل المسؤوليات الأخرى، ولذلك كان قد تقبل الفقر بصدر رحب كونه دليل على ما يمكن تسميته بـ «المهنيّة الفكرية».

وقال «كاليكليكس» أحد أشد نقّاد سقراط غير عابئٍ بمحاولته الدفاع عن الحياة الفلسفية: «عندما أرى اليافع يتفلسف، أسمح بذلك». ثم استطرد التوبيخ بالقول: «لكني عندما أرى طاعنًا في السن لا زال يتفلسف ولم يتخلص من ذلك، لا بد أن يكون هو السيد سُقراط، والذي أجد أنه بحاجة لأن يُضرب بالسياط». (أفلاطون، محاورة جورجياس).

على الرغم مِن انخراط القلة القليلة من الأفراد في دراسة الفلسفة داخل أثينا، إلا أن الجميع كان يعلم مَن هو سقراط. فعندما أراد الكاتب المسرحي «أريستوفينس» السخرية من التفكير العلمي في مسرحيته «الغيوم» قام بتصوير سقراط كبروفيسور فاقد الذهن يقوم بتجارب غير معقولة، ثم ينقل أحد طلابه تقريرًا عما يفعله المعلم، بأنه محاولة لاستكشاف إذا ما كان صوت طنين البعوضة يخرج من فمها أو من شرجها. إذ تبدأ المسرحية مع المزارع الريفي «ستريبسياديس» محاولًا اقناع ابنه «فيديبيدس» تحسين حياته من خلال دخول مدرسة سقراط، لكن الابن لا يلبث إلا أن يصرّح بتقزز قائلًا: «أعلم عنهم كثيرًا، إنهم أوغاد ماكري الحيلة، هزيلي الأجسام حفاة الأقدام، هكذا يكون سقراط وصديقه المخلص شريفون! كتل مِن البؤس ولا شيء آخر!». (مسرحية الغيوم).

إلا أن شهرة سقراط قد امتدت لأبعد من حدود موطنه الأم أثينا، لا سيما مع تسجيل أفلاطون للجدل الذي دار بين سقراط والقائد العسكري الطموح «مينون» الذي أتى من مدينة «ثيساليا» المجاورة له دارسًا على يد مفكرين مشاهير أيضًا كالسفسطائي جورجياس. سعى مينون حينها لسقراط لأخذ نصيحته عن كيفية بلوغ «القمة» في الثقافة الإغريقية، والتي بإمكاننا أن نترجمها بعالمنا اليوم كنجاح أو فضيلة أخلاقية. لذلك استفسر مينون قائلًا: «هل بإمكانك يا سقراط أن تخبرني كيفية بلوغ أي قمة بإمكاني وصولها واكتسابها بواسطة الممارسة وليس التعلّم؟» (أفلاطون، محاورات مينون).

بدلًا من إجابة السؤال، جادل سقراط بأنه يجب معرفة معنى النجاح والقمة قبل أن نقوم ببلوغها. إذ أصبح واحدنا يحتاج لخطة مختلفة تمامًا اعتمادًا إذا ما كان ينشد الوصول لمرتبة جيف بيزوس مؤسس أمازون أو الأم تيريزا. إذ أن سؤال مينون يفترض مسبقًا وجود فكرة جيدة عن ماهيّة النجاح ومضمونه، والذي تبين غالبًا أنه ما هو إلا تكديس في الأموال والقوة، بدلًا من مساعدة الفقراء والمحتاجين.

سقراط

إلا أن سقراط اعترف بجهله التام عن الموضوع قائلًا: «عليّ أن أوبخ نفسي على جهلي الكامل بالفضيلة». مما سبب صدمة لدى مينون من هذه الإجابة وساهم في انتشار صيت سقراط عبر الأرجاء، إلا أن مينون استمر بالتساؤل بتردد وحيرة: «لكن هل حقًا يا سقراط، أنت لا تعرف ما هي الفضيلة؟ هل نرجع لبيوتنا بهذا الإدلاء فقط منك؟».

لماذا الاعتراف السقراطي بالجهل أثار حفيظة مينون الأخلاقية؟ بالتأكيد سيعذر غياب المعرفة السقراطية عن الموضوع لثلة من الأسباب، أحدها معرفة الجميع على كل الأحوال ماذا يعني أن تكون شخصًا جيدًا. حتى السفسطائي «بروتاغوراس» (420 – 490 قبل الميلاد) المعروف بنشر الأفكار غير الأخلاقية لدى طلابه، كان أكثر تعقلًا عندما يصرّح بأفكاره للعامة قائلاً: «ينبغي على الجميع أن يصرّحوا ويعلنوا أنهم عادلين، سواءً كانوا كذلك أو لا. فمن لا يدعي العدالة، سيكون مجنوناً». (أفلاطون، محاورة بروتاغوراس).

أما سقراط فلا يدعي جهله الشخصي فحسب بل ذهب أبعد من ذلك بالقول أنّه لم يقابل أحدًا قط يعرف ما هو المعنى الحقيقي لكلمة «فضيلة». وبهذا يكون سقراط قد رفض ليس فقط معرفته الشخصية بل معرفة معاصريه وحضارتهم بأكملها. فالقصص عن الأبطال الإغريق كأخيل مثلًا لم تكن مجرّد ترفيه وحسب، بل شكّلت نماذج ثقافية تحتذي بها الأجيال القادمة من المحاربين وقادة الدولة.

لذلك ذكّر بروتاغوراس سقراط مرة أخرى بأنه يجب أن يتعلّم بشكل أفضل، لا سيما أن أي تلميذ في المدرسة باستطاعته أن يحكي قصص الأبطال الماضيين وأفعالهم: «عندما يتعلم التلاميذ كتابة الحروف، يتم تزويدهم بالقصائد الشعرية الجيدة ليقرؤوها كلما جلسوا في الصف. فهي قد صُنعت لتنغرس في عقولهم وتحفظ في قلوبهم.» ثم يضيف: «وكان قد تم تحذيرهم من سرد القصص والمديح الزائد لأبطال الماضي، لأن ذلك قد يؤدي بالطفل الحاسد السيء إلى التوق لتقليدهم وبالتالي يصبح كأحدهم».

كيف بعد ذلك يقول سقراط أنه لا يعلم ماذا يعني أن يكون المرء صاحب فضيلة؟ بينما كان هو وجميع أقرانه قد تربوا بنفس طريقة أولئك التلاميذ على تلك الأعمال الشعرية الملحمية؟

هذا ما وضعَ الإعلان السقراطي بالجهل في ورطة، بالرغم مِن اعتناقه الطقوس الإغريقية الدينية قامت المحكمة الأثينية برفع قضية ضدّه لحَمل أفكار غير قويمة، وقد بيّنت أنه مذنب مِن خلال الإعلان باتهامه بإفساد شباب أثينا وعدم اعترافه بالآلهة الرسمية التي تؤمن بها الدولة بل بكائنات روحية أخرى جديدة. أما سقراط فقد استجاب لهذا الاتهام بالقول أنّه لم يجحد بالآلهة إنما لديه مهمة مُوكلة إليه من قبل الإله نفسه. وكان قد أدلى بشهادته قبل أن يُخبر مجلس الحكماء بمعبد دلفي صديقه شريفون أن سقراط هو أحكم رجل في العالم. بعدها كرّس سقراط حياته لمعرفة إن كان بإمكانه إيجاد شخص أكثر حكمةً، إلا أنه في النهاية أكّد ما خرج من معبد دلفي، مُعلنًا أنه أحكم رجل في العالم كونه الوحيد الذي أعترف بجهله وأنه لا يعرف.

وقال موجهًا الكلام عن أحد رجال السياسة المُهابين في زمنه: «أنا أحكم من هذا الرجل، صحيح أن كلانا لا يعلم شيئًا عن الخير والشر، إلا أن ذلك الرجل يعتقد أنه يعرف شيئًا بينما هو لا. أما أنا فلا أعرف شيئًا ولا أعتقد أنني أعرف».

ادعاء سقراط بأنه يفعل عمل الإله لم يكن حميدَ الوقع على لجنة المُحلفين الذين كانوا قليلي الانبهار بتصريحهِ عدم معرفة شيء خصوصًا مع محاولاته لجعل الآخرين يبدون كالحمقى. وقد أصدروا حكمهم بأنه مذنب إلا أنهم منحوه فرصة أخيرة لتحرير نفسه مِن خلال إخبار المحكمة ما هو العقاب الملائم له. وفي آخر زفرة احتجاج له، اقترح سقراط أن يتم الاحتفال بأعماله الفكرية بنفس طريقة الاحتفال بأبطال ألعاب القوى الإغريق، مُتسائلًا عن ذلك بسخط: «ألا يستحق رجل مثلي ذلك! لا يوجد أحد من رجال أثينا أكثر مناسبةً للرجل الذي تخلى عن طعامه من أجل نيل حريته. وهذا بالنسبة لي أهم من أي أحد يربح السباق في الألعاب الأولمبية لأنه يقود زوج من الأحصنة!».

لم تبدِ لجنة المحلفين أية ردة فعل على اقتراح سقراط العقابي، وبدلًا من ذلك حكمت عليه بالذنب فارضةً عليه شرب سم الشكران حتى الموت. وليس بعد مضي وقت طويل على وفاته شعر الإغريق بمدى خطأهم بالحكم عليه بالموت، الأمر الذي جعل منه اسمًا بارزًا في التاريخ. إلا أنّ السؤال لا يزال باقيًا: لماذا علينا تبجيل شخص جل أعماله أنه اعترف بجهله فقط؟

نستفيد من محاورات أفلاطون من خلال آلاف الصفحات التي تم حفظها، وبنسبة أقل أو أكثر من محاورات سقراط مع أقرانه. ومرةً تلو الأخرى استمر سقراط بالتصريح بأنه لا يعرف شيئًا، إلا أنه في مكان استثنائي داخل آلاف الصفحات هذه وفي واحدة من المناسبات القليلة، قال سقراط أن هناك شيء يعرف عنه بعين اليقين: «وهو أنه هناك فرق بين الرأي المحق والمعرفة، وهذا ليس مجرد تخمين مني، إنما شيء أجزم أني أعرفه تمامًا، ليس هناك الكثير من الأمور التي بإمكاني قول ذلك عنها إلا أن هذا الأمر وعلى كل المقاييس أضعه ضمن ما أعرفهُ». (محاورة مينون).

الخطأ للحمقى وهو أمر مستهجن أخلاقيًا، أما إعلان سقراط بالجهل كان مجرّد طريقة استفزازية لحث الناس على التفكير واكتشاف الفرق بين الرأي (الذي بإمكانه أن يكون مُضللًا بشدة) وبين الادعاءات المثبتة منطقيًا. بكلمات أخرى، كان لدى سقراط العديد مِن الآراء الجيدة إلا أنه قد لاحظ أنها قد لا تساهم في خدمة الصالح العام للحكمة.

سقراط

على الرغم من تفوّق بعض الفلاسفة عليه، يعتبر سقراط المؤسس الأول للتفكير الفلسفي التقليدي في الغرب كونهُ كان المحقق الأوّل في الشؤون الإنسانية بشكل منهجي علمي، فكان بذلك الرجل الأول الذي استطاع إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض وحث الناس على طرح الأسئلة عن الحياة وفضيلتها.

لا يزال العديد من الناس يعتقدون أن الأخلاق مسألة رأي نسبي، خصوصًا أن دراسة بحثية أجريت في عام 2015 من قبل Barna Research Group وجدت أن 74% من جيل الألفية يوافقون هذا الرأي القائل بـ: (مهما يكن الصواب في الحياة أو العمل، يبقى ما هو أفضل وأحسن بالنسبة لك، الحقيقة الوحيدة المتواجدة). إلا أنه على النقيض من هذا، يعتقد سقراط بقوة أن الشؤون الإنسانية محكومة بمبادئ مطلقة وهو ما يمكن التنقيب والتحقيق عنه كما في أي مبحث آخر من المعرفة. ورغمًا من تكريس حياته كلها لصالح هذه الدراسات، كان قد أجبر على إدراك حدود معرفته. لكن وكما أن معاهد الأبحاث السرطانية لن تتوقف عن أبحاثها حتى تجد العلاج، يجب إكمال العمل السقراطي ليس سوى لسبب وحيد وهو أن حيواتنا تعتمد عليه. تمامًا كما عبر عن ذلك في محاورته مع مينون قائلًا: «واجبنا أن نتقصى عما لا نعرفه، ذلك سيجعلنا أفضل وأكثر شجاعةً وحيلةً في مواجهة فكرة أنه لا إمكانية لنا في اكتشاف ما يقع خارج حدود معرفتنا».

ذو صلة

الانطوائية والانفتاحية: كيف فسر العلم الصراع الداخلي بينهما؟

لو كانت الحياة عادلة!

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة