تريند 🔥

🤖 AI

بعض أهم الإبادات الجماعية في القرن العشرين: ما بين الدوافع والتنفيذ والشرعنة

الإبادة الجماعية
سها ديوب
سها ديوب

17 د

تُعرَّف الإبادة الجماعية وهي جزءٌ من الجرائم ضد الإنسانية حسب الأمم المتحدة بأنها: “ارتكاب أيّ من الأفعال التالية بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية: قتل أفراد من المجموعة؛ التسبب في أذية خطيرة سواء جسدية أو عقلية لأعضاء المجموعة، إخضاع المجموعة بشكل قسري لظروف معيشية معينة بغية تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا، فرض التدابير التي من شأنها منع الإنجاب ضمن المجموعة، النقل القسري لأطفال هذه الجموعة إلى مجموعة أُخرى”.

في ظل هذا التعريف، سوف نسلّط الضوء على مجموعة من الإبادات الجماعية اللاإنسانية التي حدثت في القرن العشرين، والتي تضعنا اليوم في امتحانٍ صعب أمام إنسانيتنا، فإما أن نعترف ونتغيّر، أو أن ننكر ونستوحش. وعلى الرغم من أنّنا نتألم لقتل أي إنسان ظلمًا على هذه الأرض؛ إلا أن حجم المقال لا يسعفنا لإنصافهم جميعهم ولو بالذكر فقط، لذا سنذكر بعض أكبر هذه المجازر، علّ الصفعات الكبرى على وجه الإنسانية تعيدها إلى رشدها.


الإبادة الجماعية للأرمن

سكن الشعب الأرمني منطقة القوقاز في أوراسيا لـ 3000 عامٍ تقريبًا، وكانت في فترة من الفترات كيانًا مستقلًا، وتعتبر أول دولةٍ في العالم تجعل المسيحية دينها الرسمي، وذلك في بداية القرن الرابع ميلادي. وعلى ما يبدو، فإن السيطرة على الجزء الأكبر من هذه المنطقة قد انتقل من إمبراطورية إلى أُخرى، واستمر الوضع هكذا حتى بداية القرن الخامس عشر ميلادي، حين وقعت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية القوية.

وفي ظل الحكم العثماني، سمح الحكام العثمانيون للأقليات الدينية كالمسيحيين الأرمن بالحفاظ على بعض أشكال الحكم الذاتي، إلا أنهم طالبوهم بدفع ضرائب أكبر من المسلمين أو ما يُعرف بالجزية، ومنحوهم كذلك القليل جدًّا من الحقوق السياسية والقانونية، باعتبارهم “كفّار”. وعلى الرغم من هذه العقبات، إلا أنّ المجتمع الأرمني قد ازدهر تحت الحكم العثماني، وأصبح الأرمن أفضل تعليمًا وأكثر ثراءً من جيرانهم الأتراك.


الدوافع

هذا التفوق الأرمني أثار استياء الأتراك، ومما زاد الطين بلّةً هي تلك الشكوك التي تدّعي أنّ الأرمن سيكونون أكثر ولاءً للحكومات المسيحية كالروس مثلًا، خاصّةً أنّ الروس كانوا يتشاركون مع تركيا حدودًا غير مستقرة، وقد زادت هذه الشكوك حدّةً مع انهيار الإمبراطورية العثمانية.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، أعلن السلطان التركي عبد الحميد الثاني والذي كان مهووسًا بالولاء قبل كل شيء، والغاضب من الحملة الأرمنية الثورية والناشئة لكسب الحقوق المدنية الأساسية، أعلن بأنه سيحلّ “المسألة الأرمنية” مرّة واحدةً وإلى الأبد، ثم تجسّد هذا التصريح على أرض الواقع بمذبحة صادقت الدولة عليها، ما بين 1894 و 1896، والتي أتت كردٍ على احتجاجات الأرمن واسعة النطاق. حيث قام المسؤولون العسكريون الأتراك والجنود وحتى الرجال العاديون بنهب المدن والقرى الأرمنية، وذبح وقتل مئات الآلاف من الأرمن.

لكن الإبادة الحقيقة لم تحصل في زمن السلطان عبد الحميد وإنما في زمنٍ آخر، إذ وبحلول عام 1908، أطاحت مجموعة من الإصلاحيين أطلقوا على أنفسهم اسم “الشباب الأتراك” بالسلطان عبد الحميد الثاني، ووصلوا إلى الحكم وأسسوا حكومة دستورية أكثر حداثة. وقد أمِل الأرمن حينها أن يحوزوا على مكانة متساوية في الدولة الجديدة، لكنهم سرعان ما أدركوا أنّ أكثر ما يرغب به الشباب الأتراك هو “إضفاء الطابع التركي” على الإمبراطورية، لذا وبالطبع فإنّ غير الأتراك، أو المسيحيون غير الأتراك، هم أكثر التهديدات خطرًا بالنسبة للدولة الجديدة.

الإبادة الجماعية

الإبادة الجماعية للأرمن على يد السلطات التركية

في عام 1914، دخل الأتراك الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي الوقت نفسه، أعلنت السلطات الدينية العثمانية الحرب المقدّسة ضدّ جميع المسيحيين باستثناء حلفائهم. ثم بدأ القادة العسكريون بالنقاش فيما إذا كان الأرمن خونة؛ إذ اعتقدوا أنهم سينالون الاستقلال في حال انتصر الحلفاء في الحرب. بل ذهب الجدال مدىً أبعد، وافترضوا أنّ الأرمن سيحرصون على القتال إلى جانب العدو.

وفي النهاية، قد تكون لهذه الهواجس شيء من الصِّحة، فمع اشتداد الحرب، نظم الأرمن كتائب متطوعة لمساعدة الجيش الروسي في قتاله ضد الأتراك في منطقة القوقاز. بالتالي، دفعت هذه الأحداث بالإضافة إلى شكّ الأتراك بولاء الشعب الأرمني أساسًا الحكومة التركية إلى بذل المزيد من الجهد لإبعاد الأرمن من مناطق الحرب على طول الجبهة الشرقية.


تنفيذ الإبادة

في الرابع والعشرين من نيسان عام 1915، بدأت مأساة الأرمن. في ذلك اليوم، تمّ اعتقال وإعدام مئاتٌ من المثقفين الأرمن، ثم طُرِد الناس العاديون من بيوتهم، وأُجبِروا على السير في مسيرات “الموت” عبر الصحراء الممتدة ما بين نهري دجلة والفرات دون طعامٍ أو مياه.

الإبادة الجماعية

مسيرات الموت

وغالبًا ما كانوا يُجردَون من ملابسهم ويجبرون على المشي تحت أشعة الشمس حتى يتساقطون موتى من التعب والإنهاك، أما من يتوقف قليلًا لنيل الراحة فكان يموت قتلًا بالرصاص. كما قام “الشباب الأتراك” بإنشاء وتأسيس “منظمة خاصة” والتي أسست بدورها ما أسمتهم “فرق القتل”، والتي تألفت غالبًا من قتلة ومدانين سابقين، كُلِّفوا “بتصفية العناصر المسيحية”، فأغرقوا الناس في الأنهار، ورموهم من المنحدرات، وأحرقوهم أحياءً، وصلبوهم، حتى امتلأ الريف التركي بالجثث الأرمنية.

الإبادة الجماعية

مقابر جماعية للأرمن

بالإضافة إلى القتل، تُظهِر السجلات أنّ هذه الفرِق اختطفت الأطفال الأرمن وحولتهم عنوةً إلى الإسلام، واغتصب بعضهم النساء وأجبروهنّ على الانضمام إلى “الحريم” التركي أو العمل كعبيد، كما قامت العديد من العائلات المسلمة التركية بالانتقال إلى منازل الأرمن الُمرحَّلين والاستيلاء على ممتلكاتهم.

الإبادة الجماعية

اختطاف أطفال الأرمن

وعلى الرغم من التقارير المتضاربة، إلّا أنّ معظم المصادر تتفق على أن عدد الأرمن الذين كانوا موجودين في الإمبراطورية العثمانية في وقت المجزرة كان حوالي 2 مليون إنسان، وفي عام 1922، عندما انتهت الإبادة الجماعية، لم يكن عدد المتبقين منهم في الإمبراطورية العثمانية سوى 388000 شخص، فأين اختفى الباقي؟


انتهاء الإبادة وبداية الإنكار

على كلّ الأحوال، هناك اتفاق عامٌ على وفاة مئات الألوف من الأرمن قتلًا أو جوعًا أو تعبًا أو مرضًا، وذلك عندما قام العثمانيون بترحيلهم بشكل جماعي من شرق الأناضول إلى الصحراء السورية عامي 1915 و1916، لكنّ العدد الإجمالي للقتلى لا يزال محط نزاعٍ شديد؛ إذ يقول الأرمن أن 1.5 مليون أرمنيًا قد قُتلوا، في حين تقدّر تركيا عدد القتلى الإجمالي بـ 300,000 شخص.

الإبادة الجماعية

تهجير الأرمن

وكما يُقال فإنّ إنكار المجزرة هي المرحلة الأخيرة من تنفيذها. إذ لا تزال الحكومة التركية تنفي وقوع الإبادة الجماعية، وتقاوم الدعوات واسعة النطاق التي تطالبها بالاعتراف بعمليات القتل تلك، بل إنها تدعيّ أنّ الأرمن كانوا قوّةً معادية، وذبحهم كان إجراءً ضروريًا للحرب. وعلى الرغم من أنّ مجلس النواب الأمريكي قد صوّت عام 2019 على الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، إلا أنّ تركيا قد استنكرت التصويت وأدانته ووصفته كخطوة سياسية لا معنى لها. وربما من الأمور التي جعلت أمريكا تماطل في هذا القرار هو أنها تعتبر تركيا حليفًا مهمًا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وتخشى خسارته أو إغضابه.

الإبادة الجماعية

نكران تركي للمجازر

الإبادة الجماعية بالتجويع في أوكرانيا

لطالما تفنّن الزعماء والحكومات في ابتكار طرقٍ جديدةٍ في التعذيب أو القتل، لذلك لا نستغرب وجود مجازر أو عمليات إبادة تحصد أرواح آلاف البشر ودون سفك نقطة واحدةٍ من الدماء. فمثلًا هناك الـ”هولودومور” أو الإبادة الجماعية بالتجويع، وهي مجاعة من صنع الإنسان لقتل الإنسان.

هزت هذه المجاعة جمهورية أوكرانيا السوفييتية عامي 1932 و1933، وبلغت شدتها في أواخر ربيع عام 1933. وعلى الرغم من أنها كانت جزءًا من مجاعة سوفيتية جماعية واسعة النطاق في مناطق زراعة الحبوب في روسيا السوفيتية وكازاخستان، امتدت من 1931 حتى 1934، إلا أنّ المجاعة الأوكرانية كانت أكثر فتكًا، خصوصًا وأنّ المراسيم والقرارات السياسية كانت تستهدف على الأغلب أو ربما على وجه التحديد أوكرانيا فقط.


الدوافع

يمكن القول إن سبب المشكلة قد لاح بالأفق عندما قرر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إنشاء المزارع الجماعية؛ وهي سياسة تبنتها الحكومة السوفييتية، تقوم على تحويل الزراعة التقليدية إلى نظام المزارع الجماعية، بحيث يُجبَر الفلاحون على التخليّ عن أراضيهم وممتلكاتهم الشخصية ومساكنهم أحيانًا، والانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة، وإضعاف القوة الاقتصادية للمزارعين ميسوري الحال وترحيلهم، بالإضافة إلى ترحيل الفلاحين الذين رفضوا فكرة المزارع الجماعية.

الإبادة الجماعية

أوكرانيا في ظل الحكم السوفييتي

من المجاعة إلى الإبادة

أدى نظام المزارع الجماعية هذا إلى انخفاض الإنتاج، وعدم تنظيم الاقتصاد الريفي، ونقص الغذاء. وأشعل كذلك سلسلةً من الحركات التمردية الفلاحية، بما في ذلك انتفاضات مسلحة، في بعض أجزاء أوكرانيا. وقد أثارت هذه الثورات قلق ستالين، خصوصًا أنها تشكلت في المقاطعات التي قاتلت قبل عقدٍ من الزمن ضد الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية الروسية، كما زاد قلقه من غضب ومقاومة الحزب الشيوعي الأوكراني لسياسة الدولة الزراعية. لذلك وخوفًا من خسارة أوكرانيا، اتخذّ المكتب السياسي السوفييتي، قيادة نخبة الحزب الشيوعي السوفييتي، سلسلةً من القرارات التي وسعت المجاعة وزادت شدتها في الريف الأوكراني، فتم وضع العديد من المزارع والقرى والمدن بأكملها في أوكرانيا على القوائم السوداء، ومنعها من تلقي الطعام.

الإبادة الجماعية

الهولودمور

على الرغم من الجوع المتزايد، وازدياد الطلب على الموارد الغذائية إلا أنّ المساعدات لم تقدّم بالكمية الكافية. ثم وصلت الأزمة إلى ذروتها في شتاء 1932، عندما قامت مجموعات منظمّة من الشرطة والشيوعيين بنهب وسلب منازل الفلاحين، فأخذوا كل ما يصلح للأكل، من محاصيل ومُؤَنٍ غذائية وحتى الحيوانات الأليفة.

الإبادة الجماعية

مجاعة أوكرانيا

والحصيلة، لقيَ ما لا يقل عن 5 مليون شخص حتفه بين عامي 1931 و1934، منهم 3.9 مليون أوكراني، وذلك استنادًا إلى ما بينّه علماء الديموغرافيا الأوكرانيين. تم دفن الجثث في مقابر جماعية في جميع أنحاء الريف، كما أثّر على سكان المدن ولو أن العديد منهم قد تمكّن من النجاة بسبب البطاقات التموينية. ومع ذلك، فقد انتشرت الجثث في شوارع أكبر المدن الأوكرانية، وكثرت وشاعت عمليات النهب والسرقة وسُجلت العديد من الحالات لآكلي لحوم البشر.

الإبادة الجماعية

موت الناس في الشوارع جوعًا

بالإضافة إلى ذلك، فقد رافق المجاعة هجوم أوسع على الهوية الأوكرانية؛ فبينما كان الفلاحون يموتون بالملايين، كان عملاء الشرطة السرية السوفييتية يستهدفون المؤسسة السياسية الأوكرانية والمثقفين ورجال الدين الأوكرانيين وغيرهم. ولا بد أن نذكر أن مناقشة هذه الإبادة كان من المحرمات، وقد أنكرها الكرملين رسميًا لأكثر من نصف قرن. أما أول ذكرٍ لها في الاتحاد السوفييتي كان عام 1986، أعقاب الكارثة التي حلت بمحطة الطاقة النووية تشرنوبل، والتي بدورها أُبقِيت سرية في البداية من قبل السلطات السوفييتية.


الإبادة الجماعية في رواندا

حدثت عام 1994، وهي أقصر الإبادات الجماعية زمنًا في لائحتنا، إذ استمرت 100 يومٍ فقط، لكن قُتِل فيها ما يقارب المليون إنسان من الأقلية العرقية “التوتسي” بالإضافة إلى بعض المنتمين لعرق “الهوتو” المعتدلين.


الدوافع

يمكن القول إنّ عمليات الإبادة نتجت أساسًا عن العنصرية الشديدة التي خلّفها الاستعمار البلجيكي؛ إذ أصبحت المجموعات العرقية في رواندا وهي “هوتو” و”توتسي” و”توا” خلال فترة الحكم الاستعماري شديدة التعصب الانتمائي، وأصبح من شأن علاقاتها بالسلطة السياسية أن يضع حجر الأساس لعنف الإبادة التي ستحصل لاحقًا.

ثم وبعدما حصلت رواندا على الاستقلال عام 1962، أصبحت السلطة بيَد الأغلبية العرقية “الهوتو”، والذين اتبعوا سياسة تمييزية واسعة النطاق ضد “التوتسي” وصولًا إلى ما وصلوا إليه عام 1994.

لكن، من المنصف القول إنّ الإبادة الجماعية في رواندا قد حدثت في سياق حربٍ أهلية؛ إذ وقبل وقوع الإبادة، كانت قد اندلعت حرب أهلية عام 1990 ما بين “الهوتو” المتمثلة بالقوّات المسلحة الحكومية، و”التوتسي” المتمثلة بالجبهة الرواندية الوطنية المتمردة (RPF) بقيادة بعض التوتسيين المنفيين في أوغندا، وبسبب هذه الحروب المستمرة، فقد تم الترويج للتوتسي على أنهم خونة خطيرون. ولاحقًا في عام 1994، تم إسقاط طائرة الرئيس الرواندي “جوفينال هابياريمانا”، لتُشعِل هذه الحادثة فتيل المجازر.

الإبادة الجماعية

الحرب الأهلية في رواندا

حَملُ السواطير وبداية القتل

في الفترة الممتدة ما بين 7 نيسان و15 تموز من ذلك العام، تمّ قتل ما يُقدَّر بحوالي 800,000 شخص من التوتسي وبعض الهوتو المعتدلين، بالإضافة إلى أعمال عنف وتعذيب وعمليات اغتصاب ممنهجة أدت لانتشار فيروس الإيدز في جميع أنحاء رواندا لاحقًا. اعتمدت عملية القتل هذه على الأفراد الذين تصرفوا وفق أوامر القيادة المركزية، واستخدموا الأسلحة البدائية كالسكاكين والسواطير وغيرها من الأسلحة الحادة، وغالبًا ما كان الضحايا على معرفةٍ شخصية بالمهاجمين، بل ويروي بعض الناجين أنّ الضحايا كانوا يقدمون الرشاوى للقَتَلى طمعًا بالموت قتلًا بالرصاص.

الإبادة الجماعية

المجازر في رواندا

سبّب هذا العنف أزمة إنسانية كبيرة لا تزال تؤثر على منطقة البحيرات الكبرى، ولا يزال فشل المجتمع الدولي في التدخل ووقف العنف، يلحق الضرر بسمعة عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة حتى هذا اليوم.


الإبادة الجماعية ضد الروهينجا

على الرغم من أنّ ضحايا هذه الإبادة هو الأقل عددًا في لائحتنا، إلا أنّها كانت تضمّ عمليات اضطهادٍ وتهجيرٍ لعشرات الآلاف من الناس على مدى عقودٍ من الزمن. والقصة كالتالي:

حدثت هذه الإبادة في ميانمار (بورما سابقًا)، وهي دولةٌ ذات أغلبية بوذيّة، وتعتبر ثاني أكبر دولة في جنوب شرق آسيا، تحدّها الصين وتايلاند وبنغلاديش والهند ولاوس. كان نظام الحكم فيها مسؤولًا عن انتهاكات جسيمةٍ لحقوق الإنسان ضد الأقليات العرقية والدينية، وعلى رأسها مسلمي الروهينجا. إذ تُتّهَم حكومة ميانمار اليوم بتنفيذ عمليات التطهير العرقي، وذلك بسبب الفظائع الجماعية الكبيرة التي ارتكبتها ضد مسلمي الروهينجا وغيرهم من الأقليات الدينية، بما في ذلك الإعدام، والتعذيب الشديد، والاغتصاب، والابتزاز، والتهجير، وغيرها من الأفعال الوحشية.

الإبادة الجماعية

الإبادة الجماعية ضد الروهينغا

أما الروهينجا فهُم مجموعة عرقية مسلمة عاشت تاريخيًا في ميانمار، قارب تعدادهم عام 2017 حوال 1.1 مليون شخص، وهو ما يُشكّل 4% من سكان البلاد. يقيم معظمهم في ولاية راخين الساحلية الغربية، لديهم لغتهم وثقافتهم الخاصة، ويقولون إنهم من نسل التجار العرب ومجموعات أُخرى موجودة في المنطقة منذ أجيال. وقد بدأت معاناة هذه الأقلية المسلمة منذ عام 1978، عندما نفّذ جيش بورما عمليات قتل وحرقٍ واغتصابٍ مُتعمَّدة ضدهم، وهذا ما أجبر حوالي 200,000 شخص على الفرار خارج البلاد. ثمّ وبعد 4 سنوات، أصدرت الحكومة قانون الجنسية، والذي تمّ بموجبه تجريد الروهينجا رسميًا من جنسيتهم، وقد بررت الحكومة هذا الإجراء بأنّ الروهينجا كانوا بنغاليين، على الرغم من أنهم عاشوا في ميانمار منذ أجيال عديدة.

الإبادة الجماعية

تهجير الروهينغا

ثم في عامي 1991 و1992، فرّ مجددًا أكثر من 250,000 شخص من الروهينجا إلى بنغلاديش، هربًا من العمل سخرةً والاغتصاب والاضطهاد الديني على أيدي جيش ميانمار والمعروف باسم تاتمادو. ولاحقًا، عام 2012، تحوّل العنف الدائر في ولاية راخين ما بين مسلمي الروهينجا والبوذيين إلى حملة تستهدف طرد أو ترحيل مسلمي الولاية. حيث نفّذ قادة الأحزاب السياسية وكبار الرهبان البوذيين وقوات أمن الدولة عمليات قتلٍ جماعية للرجال والنساء والأطفال، ودمروا قراهم، وهدموا أكثر من 5000 منزل. ترك هذا العنف حوالي 150,000 شخص بلا مأوى، كما تسبب في فرار أكثر من 100,000 شخص إلى ماليزيا بالقوارب.

الإبادة الجماعية

مأساة الروهينغا

ثم حدث ما حدث في 25 آب من عام 2017، عندما قامت مجموعة من مسلحي الروهينجا بشنّ هجومٍ  على بعض مراكز الشرطة في ميانمار، وهو ما أدى إلى انتقام عسكريٍّ عنيف، وحملة قمع مميتة ضد جميع الروهينجا، قُتِل فيها ما لا يقل عن 6700 شخص، بينهم لا يقل عن 730 طفلًا دون الخامسة. وأدت إلى نشوء أسرع حركةٍ للاجئين منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994؛ ففي غضون ثلاثة أشهر فقط، فرّ أكثر من 675,000 من الروهينجا من البلاد بحثًا عن الأمان في بنغلاديش المجاورة.

الإبادة الجماعية

التطهير الديني ضد الروهينغا

وقد زعمت الحكومة أنّ “عمليات التطهير ضد المسلحين” كما أسمتها، قد انتهت في 5 أيلول عام 2017، لكن مراسلي وكالة أخبار BBC قد شاهدوا أدلةً على استمرارها بعد ذلك التاريخ. بالإضافة إلى القتل والتهجير، فقد تم تدمير ما لا يقل عن 288 قرية جزئيًا أو كليًا في ولاية راخين، وذلك وفقًا لتحليل صور الأقمار الصناعية التابعة لمرصد حقوق الإنسان.

الإبادة الجماعية

اعتقال الروهينجا

وفي كانون الثاني 2020، أمرت المحكمة العليا التابعة لهيئة الأمم المتحدة دولة ميانمار باتّخاذ التدابير اللازمة لحماية أفراد مجتمع الروهينجا من الإبادة الجماعية، إلا أنّ جيش ميانمار زعمَ أنه يقاتل مسلحي الروهينجا، ونفى استهداف المدنيين. كما نفت زعيمة البلاد “أونغ سان سو كي”، والتي كانت ذات يومٍ رمزًا لحقوق الإنسان، نفت مرارًا وتكرارًا مزاعم الإبادة الجماعية.


إضفاء الشرعية (الشرعنْة) على عمليات الإبادة

تتطلب الإبادة الجماعية كما رأينا المشاركة النشطة لعدد كبير من فئات المجتمع، والقبول السلبي لباقي أفراد الشعب. فهي جريمة يشارك بها الكثيرون، وليست جريمة صغيرة. فالمحرقة اليهودية مثلًا سميت “المشروع الوطني الألماني” لأنها شملت العديد من المشاركين والمتواطئين من مختلف مناحي الحياة. كذلك الأمر بالنسبة للإبادة الرواندية، والتي على الرغم من أنها وُجِّهت ونُظِّمت على أيدي القادة العسكريين والسياسيين، لكنها اعتمدت على العديد من المواطنين العاديين لتسهيل القتل.

إذًا وعلى الرغم من أنّ المجازر الجماعية هي محاولات ممنهجة واسعة النطاق للقضاء على مجموعة ما من السكان، فإنّ ارتكابها يعتمد بشكل كبير على شرائح كبيرة من الدولة. وهذا ما يدفعنا للتساؤل، لماذا يتم هذا القبول؟ أو لنقل: كيف يمكن للدول التي تميل لارتكاب الإبادة الجماعية أن تحشد مثل هذا الدعم الجماهيري الكبير في سياساتها المدمرة والقاتلة؟ وكيف تستطيع الحصول على القبول لدى الفئات الشعبية المختلفة؟

لن نتطرق إلى قدرة الحكومات على إقناع شبابها بالذهاب إلى طرفٍ آخر من الكرة الأرضية، وإلقاء القنابل على شعبٍ آخر، رغم معرفتهم الكاملة أنّ هذه القنابل ستقتل قسمًا كبيرًا من المدنيين والأبرياء. ما سنتكلم عنه هنا هو قدرة الحكومات على إشراك معظم فئات الشعب لارتكاب إبادة تجاه مجموعة أُخرى من سكانها، والتي تشمل غالبًا مشاركة عدد كبير من المواطنين العاديين والذين قد تكون لديهم قيم معادية للعنف، إذ أنّ مرتكبي الإبادة الجماعية ليسوا وحوشًا أو مرضى نفسيين، بل بشرٌ عاديون يشاركون في جرائم غير عادية. فكيف استطاع هؤلاء الناس تنحية قيمهم جانبًا والانخراط في الإبادة الجماعية؟

لا توجد إجابة واحدة تفي بهذه الأسئلة، فالفهم الكامل لكيفية حدوث ذلك يحتاج إلى تفسير من عدّة تخصصات والعديد من وجهات النظر، إلا أنّ هناك بعض العوامل المهمة المتعلقة بالدور الذي تلعبه النخب الاجتماعية في تقديم مبررات مهمة لارتكاب العنف. حيث تعتمد الحكومات على مجموعة من النخب الاجتماعية من أجل تقديم الأسس الإيديولوجية والفكرية والعلمية والقانونية لتدمير مجموعة أُخرى؛ إذ يمكن القول أن وضع بعض المهنيين ورؤيتهم تكون مهمة جدًّا في إضفاء الشرعية على التصرفات اللاخلاقية لدولهم. ومن هذه النقطة تبرز أهمية الأطباء والعلماء والمحامين في توفير مفردات الدوافع، والتي تؤطّر أعمال الإبادة الجماعية بطريقة تجعلها مقبولة لعامة المجتمع، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التواطؤ ليس مقصودًا دائمًا.

وقد أدرك علماء الاجتماع منذ فترة طويلة أن معظم الناس لديهم رغبة فطرية في الانصياع للسلطة، إذ يقبل معظم الأفراد طواعيةً مطالب وقيود الحياة الاجتماعية، ويؤجلون العديد من رغباتهم واحتياجاتهم في سبيل رغبات المجموعة. فأفراد المجتمع رغم كل شيء هم كائنات اجتماعية تعلمت كيف تتعايش وتطيع وتحترم شخصيات السلطة، وهو ميل طبيعي للتوافق مع المجموعة، فنجاة المجموعة تضمن نجاة الفرد المنتمي إليها، لذا يقبل معظم الناس طواعية متطلبات وقيود العيش الاجتماعي. بعبارة أُخرى، يميل كل شخص منا نحو الطاعة والامتثال، خاصة إن كان شخص ما في السلطة يضفي الشرعية على السلوك أو الموقف الذي يأذن به. لكن، كيف يترجَم هذا الواقع الاجتماعي إلى تواطؤ في الإبادة؟ هنا يأتي دور بعض النخب الاجتماعية.


دور العلماء والأطباء

 تستند الحكومات التي تنوي ارتكاب المجازر إلى مجموعة متنوعة من الأفكار العلمية أو شبه العلمية التي يمكن استخدامها لتبرير الفظائع اللاحقة. يتم نشر هذه الأفكار من قبل العلماء والأطباء الذين تضفي مكانتهم أهمية ومصداقية على تصريحاتهم، وعلى الرغم من أنّ القصد لا يكون سياسيًّا تمامًا، إلّا أنّ هذه الأفكار منحرفةٌ أساسًا لتناسب أجندة معينة.

على سبيل المثال، في بداية القرن العشرين، أصبح هوس وهاجس الأطباء في ألمانيا هو الأمراض التي غزت الأرض في تلك الفترة وكيفية انتقالها، فالطاعون والتيفوس والجدري حصدت أرواح الملايين حول العالم، لذا فقد نادى الأطباء والعلماء ونظموا الحملات المنظمة لجعل أوروبا وأمريكا آمنتين عن طريق نشر التوعية الصحية وقواعد النظافة والتوصية باستخدام الصرف الصحي وغيرها من الطرق الوقائية التي تمنع انتشار مسببات الأمراض. وبدأوا أيضًا بتصنيف اليهود على أنهم حاملو هذه الأمراض، بل أصبح التيفوس مثلًا يُعرَف بالمرض اليهودي. لذا تمّ تجميعهم واحتجازهم في أحياء خاصة لمنع نقل الأمراض، وقد افتقرت هذه الأماكن إلى المرافق اللازمة للصرف الصحي، بالإضافة إلى الحرمان من الغذاء والحاجات الأساسية مما أدى بالضرورة إلى تفشيّ الأمراض.

ومن المثير للسخرية اعتبار أنّ انتشار الأمراض ناتج عن ميل اليهود لحمل الأمراض، وليس بسبب الظروف غير الصحية الموجودة في هذه الأحياء. بالمختصر، استطاع النازيون تصوير أعمالهم التمييزية والإبادات الجماعية بأنها ضرورية للحفاظ على صحة المجتمع الألماني، كما تقدّم الحكومة التركية الأعذار اليوم، بأن قتل وتهجير الأرمن كان ضرورة للحفاظ على حياة وأمن الأتراك من الأرمن الخونة.


دور رجال القانون

يلعب المحامون والقضاة دورًا مهمًا في إضفاء الشرعية على اضطهاد المجموعات المختلفة، فمهنة المحاماة لا تحمل قدرًا كبيرًا من النفوذ والمكانة فحسب، بل إنّ القانون بحد ذاته هو أداة قوية لإضفاء الشرعية على سياسات الاضطهاد. فكل ما هو قانوني هو مشروع، وكل ما هو غير قانوني هو غير مشروع.

على سبيل المثال، حدثت المحرقة اليهودية بعد أن حرمت المبادرات القانونية اليهود من مهنهم وممتلكاتهم وحقوقهم، وأيضًا ما قامت به حكومة ميانمار عندما سنّت قانون الجنسية، والذي حرمت بموجبه مسلميّ الروهينجا من جنسيتهم، ومن حقهم بالتعليم وملكية الممتلكات وشغل المناصب وغيرها من الحقوق. إذًا فالسيطرة على القانون تفسح المجال لتنفيذ السلطة الإيديولوجية، لأنّ القانون ببساطة هو أداةٌ للدعاية والترويج، يمكنه إضفاء الشرعية على بعض المجموعات أو الأفعال أو سلوكيات، ويمكنه بالمقابل نزع الشرعية عن بعضها الآخر.

فتعريف بعض الأشخاص على أنهم مجرمون قانونيًا، لا يعني فقط تجريدهم من حقوقهم، وإنما من هويتهم كمواطنين أيضًا. لذا فغالبًا ما يُنظر إلى المجرمين عمومًا على أنهم مختلفون وغريبون عن المواطنين الملتزمين بالقانون. كما يُعرَّف مرتكبو الإبادة الجماعية، الذين تحميهم الدولة والقوانين، بأنهم مواطنون صالحون يعملون في خدمة وطنية لأمتهم، في حين يتم تصوير ضحايا الإبادة على أنهم أعداءٌ يشكّلون تهديدًا خطيرًا على الشعب.

ذو صلة

في النهاية، فإنّ ما قدمناه من تحليلات عن كيفية تجنيد فئات الشعب لارتكاب عمليات قتلٍ تجاه مجموعات أُخرى، لا يعتبر إجابةً كاملة، وإنما جزءٌ واحدٌ من لغزٍ أكبر بكثير. لكن يمكننا القول إن الحكومات تقوم بخلق تصورات شعبية عن الخطأ والصواب، الشر والخير، وتعمل بقوة لتعزيزها والدفاع عنها. فالقوة الإيديولوجية هي أداةٌ هائلة في خلق إما التأييد العام أو الإدانة.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة