رحلة ابن فطومة: نجيب محفوظ ورحلة الهروب من الفشل بحثًا عن الحقيقة

يُراودني ورُبما يُراودك أنتَ أيضًا عزيزي القارئ، سؤال لطالما سعينا للبحث عن إجابته، ألا وهو: ما هي المثالية؟ وهل يُوجد -حقًا- شيء مثالي؟ وما هي الحقيقة الكامنة وراء رحلتنا في هذه الحياة مُبهمة التفاصيل؟ وما هو الهدف من مُعاناة البحث التي نخُوضها يوميًا؟ في رواية “رحلة ابن فطومة” للكاتب والأديب العالمي “نجيب محفوظ“، يأخذنا نجيب في إحدى روايات أدب الرحلات؛ ليُجيب لنا -رُبما- عن تلك الأسئلة بطريقته الخاصة. وسنرى خلال تلك المُراجعة كيف لرشاقة قلم نجيب أنْ تخلق فنًا للعيش يَمتد لأجيالٍ وأجيال.

تتمحور الرواية حول البطل قنديل بن مُحمد العنابي أو كما أَطلق عليه إخوته -مِن أبيه- ابن فطومة نسبةً لأمهِ فطومة الأزهري. شابٌ حالِم كغيرهِ من الشباب، يعيش مع أمه في دار الإسلام، مات والده وهو في سنٍ صغيرة تاركًا له ولأخوته ثروة تُحقق لهم حياة مُترفة. دَفعت به أمه إلى الشيخ “مغاغة الجبيلي” ليتلقى دروسَ القرآن والحديث، ليكون هذا الشيخ هو نقطة التّحول في حياة ابن فطومة، ويَخوضا معًا نقاشاتٍ كثيرة حول الرحالة والرحلات. يُحدثه مُعلِمه عن رحلاته ومُشاهداته والدّيار التي زارها، ليصل الحديث عن إحدى الديار التي لم تسنحْ له الظروف بزيارتها وهي “دار الجبل” والتي تُمثل لقاصديها الكمال المُطلق.

تدور الأحداث ويُقرر ابن فطومة الزواج، ويسعى لخِطبة إحدى الفتيات، ولكن الأمور تتعقد ويتم فسخ الخطبة. ينطوي قنديل على نفسه، ويبدُو كلّ شيءٍ مُظلمًا أمامه؛ ليُقرر مِن هنا الهروب مِن فشله -في الزواج- إلى الترحال بعيدًا عن بلاد الإسلام. عازمًا على إكمال رحلته حتى دار الجبل مهما كلفه الأمر؛ بحثًا عن السعادة والحقيقة التي تُجيب عن تساؤلاته حول المثالية والكمال، كلّ هذا وهو لم يكنْ تجاوز العشرين مِن عمره.

نرشح لك قراءة: في رواية عصر الحُبّ يقول الراوي: الكثير من الحُبّ ولا عائد!

يأخذنا نجيب في رحلة ابن فطومة من دارٍ إلى دار، واصفًا لنا تفاوت الحياة والمعيشة بكلّ دارٍ. بدايةً مِن دارِ المشرق، مُرورًا بديار الحيرة والحَلبة والأمان، وحتى دار الغروب. ورغبة قنديل في الوصول إلى دار الجبل حتى لو بدّد ثروته بأكملها وعاد إلى بيته فقيرًا.

وكما قال:

لنْ أحرق لك الأحداث عزيزي القارئ، ولكن دَعنا نُلقى نظرة سريعة على أحداث الرواية.

تبدأ رحلة ابن فطومة صوب ديار المشرق، حيثُ الجاهلية التي تتضح له في أبهى صورِها مِن أولِ قدمٍ يَخطوه على أرضها. نساء ورجال عُراة تمامًا على حدٍ سواء كلٌّ يمضي إلى وجهته، يعيشون على الفطرة بين الخمر والرقص والوثنية، يُمارسون الجنس الجماعيّ في حفلاتهم على أنّه عبادة. يسير قنديل وينتابه شعور الصدمة والغرابة، وكأنّما انتقل مِن صحراءٍ لصحراء، وخيبة توقعاته في أولِ الطريق.

يلتقي قنديل بفتاة تُذكره بحبه الأول الذي تركه بدياره، يتزوجها ويُنجب منها أربعة أبناء، وتنشب بينهما بعض الخلافات الفكرية لاختلاف المعتقدات. وتمضي الأيام حتى يتم مُهاجمة دار المشرق، وتقع الزوجة والأبناء أسرى ويتفرقا، ليرحل ابن فطومة عن دار المشرق مع أول قافلة إلى دار الحيرة.

تصل رحلة ابن فطومة لدار الحيرة، حيثُ الطابع الاستبداديّ في الحُكم. فالجميع عبيد تحت إمرة الملك، والذي يتصرف في أمور البلاد كأنه الإله، يعيشون طوع أوامره، وينتهجون دينه، ومن يَكفر بالإله يُضرب عُنقه. لا مكان بديار الحيرة لا لعدالة ولا حُرية إنسانية. حتى تقوم الحرب بين دار الحيرة ودار الحلبة بحجة تخليص الأولى من استبداد الملك، ويقع أسيرًا لمدة عشرين عامًا بسجون دار الحيرة يعلم خلالها أنّ زوجته توجهت إلى دار الحلبة. حتى يتم العفو عنه ويخرج حائرًا هل يعود لموطنه أم يُواصل رحلته نحو المصير المجهول؟ ولكنه عزف عن الرجوع، واتجه صوب دار الحلبة.

كانت تلك أول جملة تتلقاها مسامع ابن فطومة، حيث يُقدس ساكنو الحلبة حياة الحُرية والتّحرر في كلّ شيءٍ، مِن التحرر في الفكر والدين والعلم. يُقدسون العمل ويَرّون فيه الحُرية المُثلى، ويُؤمنون بدين العقل. الجميع سواسية ولكلٍّ دوره، الأمر يبدّو كأنّه تطبيق لمفهومِ العدلِ المُطلق، ولا شأن للدولة بإلزام دينٍ بعينه. فالاحترام يَسُود جميع العلاقات دون امتيازٍ لطائفةٍ على أُخرى أو لفئةٍ على غيرها.

يُقيم قنديل العنابي بدار الحلبة، ويتزوج من فتاة تُدعى سامية وينجب منها أيضًا، ويقيم تجارته الخاصة التي تُدر له كسبًا وفيرًا. ولكن الأمر لا يبدُو بتلك المثالية، فالتعاسة لُغة مُشتركة بين جميع الشعوب. فرغم حياة الحرية التي يحياها أهل الحلبة، إلا أنّهم غير سعداء تُمزقهم الخلافات الخَفية.

وبعد خلافاتٍ نشأت بين دار الحلبة ودار الأمان، وبعد مدة لا بأس بها من الإقامة والعمل وكسب المال، يتذكر ابن فطومة حلمه السامي بالوصول لدار الجبل وتدوين كتابه، فيعزم أمره على التوجه إلى محطته القادمة “دار الأمان” على أنْ يعود بعد إكمال رحلته لدار الحلبة، لاصطحاب زوجته وأبنائه إلى داره دار الإسلام.

تصل رحلة ابن فطومة لدار الأمان، حيث التقديس الأول والأخير للنظام والقانون لا الحرية -على عكس دار الحلبة- لا فرق بين غنيٍّ وفقيرٍ، النظام يدعو للعدالة الشاملة دون ترف أو بزخ، وأقل أجرٍ يكفي الفرد لتوفير حاجاته الأساسية فقط. ولكن نظام اختيار الحاكم يقتصر على صفوة البلد فقط، ويتولى الحاكم منصبه مدى الحياة وله كامل الصّلاحيات. يأخذون من العدل أساسًا للنظام، مع وضع الحُرية تحت المراقبة، ويعبدون الأرض لكونها مَكمنًا لتوفير احتياجاتهم.

وفي خلال إقامته بدار الأمان ومع الأحداث، يُدرك قنديل أنّ الحُرية الفردية في تلك البلاد مصيرها محتوم بالموت. ومع اشتداد الحرب بين الحلبة والأمان، يُحزم أمتعته نحو دار الغروب.

ومِن دارٍ إلى دار، تصل رحلة ابن فطومة إلى دار الغروب، بدتْ له وكأنّها خالية من البشر، حتى وإنْ قابل أحدًا منهم لا يُجيبه عن ضالته ويسير مُرغمًا عنه، وكأنها جنةٌ بلا ناسٍ. وعلم أنّ أهل دار الغروب يعيشون حياتهم كأنهم مُفارقون، يصبرون على مرارة الدنيا، لإدراكِ حلاوة الآخرة.

مضى قنديل يتذكر كلّ ما مرَّ به أثناء رحلته، وكيف تدهور به الحال خلال الخَمسين عامًا التي قضاها في الترحال بعيدًا عن موطنه. ولكنّ أمر الوصول لدار الجبل لم يغبْ عن ذهنه أبدًا. تتحرك القافلة قاصدةً دار الجبل، والكثير من المشاعر المختلطة تجتاح قلب قنديل. أحان الوقت للوصول لدار الكمال؟ أحانت اللحظة التي تكتمل فيها رحلة ابن فطومة حيثُ أرض الجِنان؟ ليفيق قنديل على صوت صاحب القافلة بوقف سير القافلة عند تلك النقطة، ومن يرغب بمواصلة السير فعليه أنْ يشق طريقه سيرًا.

هُنا يترك لنا نجيب الرحلة مفتوحة النهاية، ورغم عزم ابن فطومة على المُواصلة وتَكبُد أعباء الطريق، إلا أنّنا لم نعلم هل وصل؟ هل عاد؟ هل مات؟ لا نعلم.

نرشح لك قراءة: نظرة على المجتمع المصري في أدب نجيب محفوظ: التفاوت الطبقي نموذجًا!

بطريقة سلسة ورشيقة يُقدم لنا “نجيب محفوظ” الرمزية في أبهى صورها. بدايةً من عنوان الرواية الجَذاب “رحلة ابن فطومة” مُحاكاةً للرحالة الشهير “ابن بطوطة” وهذا يُشير لتصنيف الرواية ضمن أدب الرحلات.

يأخُذنا نجيب محفوظ بأسلوبه المُتمرس إلى أعماق الفلسفة، ورحلة البحث عن اليوتوبيا والحقيقة الكاملة. رواية فلسفية الطابع من الطِّراز الأول، وكأنّها رحلةٌ لإعمال العقل. تتناول ما هو أبعد بكثير عن فكرة الترحال، حيث يُناقش نجيب أصعب القضايا مُستخدمًا الرّمز. يُقارن أحوال الكثير من المجتمعات ومناهجها التي يرضخ لها شُعوبها، ويعرض لنا صورًا مُختلفة من الثقافات والعادات والشعائر التي تنتهجها تلك الشعوب.

حرصَ نجيب على وصف طابع الحضارة بكلّ مدينةٍ ذكرها، ليتَنقل بين الطابع الجاهلي إلى الطابع الغربيّ المُتحرر مُرورًا بالطابع الشّيوعي الشّموليّ إلى الطابع الصوفي والزهد في الحياة، فكان ينتقل بكلّ سلاسةٍ بين وصف نظام الحُكم والحياة السياسية، ومنها إلى العُمران، ثم الجانب الروحاني والمُمارسات الاجتماعية، ولم يجهلْ الجانب الشهواني وطُقوس الزواج.

البلاد الستة ما هي إلا محطات الرّوح الحائرة التي تبحث عن النجاة بعيدًا عن الضلالات والهرطقات، وسعيًا لإجابة العقل عن تساؤلاته. أستطيع القول إنّ نجيب قد نجح -من خلال صفحاتٍ لا تتجاوز 130 صفحة- في تحريك ذِهن القارئ بلُغة سهلة وبلاغية جذّابة دُون مللٍ يُذكر. وإنْ شَرعت في قراءة الرواية عزيزي القارئ، فلنْ تُغلقها إلا مع نهايتها.

في النهاية، وكما ذكر نجيب محفوظ أنّنا دائمًا حائِرون بين هذا الواقع القَبيح، وبين حُلمٍ لا يتحقق. والشكوى -بالفعل- هي اللغة المشتركة بين جميع البشر مهما تفاوتت سُبل الحياة. وكما قال نجيب: “حياةٌ بشريةٌ غريبةٌ، يُمكن تلْخيصُها في كَلمتين، دماء وزغاريد”.