رواية Shuggie Bain نص ثقيل مُبكٍ يقتحم مناطق أقل ما توصف به أنها شنيعة

دومًا هناك من لا تعجبه لجنة الجائزة -أي جائزة- واختياراتها للترشيح والفوز، وهناك من كان يفضل بعض ترشيحات القائمة القصيرة على المختارة التي ربحت، وهناك بالطبع المتحمس لرواية أو روايات لم تجد لها موقعًا في حسابات المسؤولين عن الجائزة. الناس يهتمون لأنهم يعرفون قيمة هذه الجوائز التي من أهمها البوكر طبعًا، لأجل ذا يراجعون الاختيارات ويفندونها.

المشكلة بالطبع أنك في العادة -خاصة ومعظمنا بلا استقرار ذاتي حقيقي- تشعر بشيء من الخطر حيال آراء المخالفين في الأدب وسواه. فإذا وقعت عينك على كلام مادح لرواية تكرهها أو ذامٍّ لرواية تحبها، أتتك تلك الرغبة في الذود عن نطاق انتمائك وإحاطته بسياج من التعبير عن رأيك تعبيرًا تختلف درجة قوته باختلاف موضعه.

ففي موضعنا هذا، عندما تعلن لجنة لها هذا الصيت الذائع والأهمية الكبرى والدعم الإعلامي منقطع النظير، عن تفضيلها رواية Shuggie Bain – شوجي بين لكاتبها Douglas Stuart – دوجلاس ستيوارت (في حالتنا)، فإن الطبيعي أن يتناسب رد الفعل السلبي والإيجابي كليهما مع عظم هذا الثناء والتشريف. هناك مرحلة معينة يبلغها العمل الأدبي فيبدو عندها حقيقة مطلقة غير قابلة للنزاع، يحدث هذا مع بعض الروايات الأكثر مبيعًا كما يجري على الأعمال الكلاسيكية، وبالطبع أهم أمثلته الروايات المكرمة من قبل الأكاديميات الأشهر ولجان الجوائز الأعلى منزلة.

لحسن حظي وحظك -وسوء حظ المتعصب والمهتم- لم أشرع في كتابة هذه المقالة لاختبار أحقية رواية شوجي بين بالجائزة، أو مقارنتها بغيرها مما كانت حظوظه في الفوز كحظوظها. ولسنا هنا أيضًا للاحتفاء بالرواية والاحتفال بكاتبها والدعوة إلى رفعها رفعًا غير محسوب. كل ما في الأمر أننا سنلقي نظرة، لأن من حق المريد أن يعرف الخبر، ومن حق الكتاب أن يقرأ، ومن حق الراغب في الإنصاف أن يكوِّن وجهة نظره الخاصة ورأيه النهائي، ولا يتأتى ذلك إلا بقراءة الرواية بوعي.

بالطبع ستظل تواجهنا المشكلات مع ذلك، فأنى لك -مثلًا- قراءة رواية قامت على هذا البناء العالي واكتسبت بالدعاية شخصية مهيبة، دون تأثر وانحياز لها أو ضدها؟ ثم كيف تقيمها تقييمك العادي لغيرها من الأعمال وهي في طبقة أخرى شديدة البعد مثيرة للسؤال المعتاد: هل تستحق تكريم البوكر لها بتعيينها أفضل روايات العام، والإقبال الشعبي، والترشح لنهائيات الجائزة الوطنية للكتاب؟ ولسوف تظل تتساءل ما كان ليكون رأيك فيها لو أنك قرأتها خاليًا من هذه العوامل. أنا شخصيًّا أعد هذا كله من مزايا العملية ومتع الرحلة، لكن، من جديد، لحسن الحظ أننا لسنا هنا لمعالجة هذه المشكلة.

ثَم لحظة في كل مقال أوقف فيها نفسي عن الثرثرة وأذكرها بمغزى الحديث حتى لا أنجرف مع انسيابي عديم الهدف. ها قد أتت فتوجب أن أحدثك عن رواية شوجي بين محور المقال. لقد صدرت في فبراير الماضي في 430 صفحة (وهو رقم مفضل للروايات الأمريكية كما نعرف)، وتدور أحداثها في سياق تاريخي درامي عائلي يركز على حقبة زمنية من التاريخ الإسكتلندي الذي ينتمي إليه الكاتب دوجلاس ستيوارت، حتى اختار جعل روايته الأولى هذه متعمقة فيه.

أخشى أن توحي لك كلمة عائلي أعلاه بأن الرواية خفيفة مناسبة للجمهور العام، فليست كذلك، بل لهي نص ثقيل مُبكٍ يقتحم مناطق أقل ما توصف به أنها شنيعة: الإساءة للأطفال والاغتصاب والتنمر والإدمان والفقر. إنها حكاية تسلط الضوء على الحياة التي لا يحب الناس تداولها، على الألم في صورته الأكثر تجريدًا، وقبح العالم المثير لأعتى الكآبة، والفترات الزمنية التي لا يكفي النظر العام إليها ما لم نغطس في بطونها ونستخرج أسود تفاصيلها.

اقرأ أيضًا:

إن لبعض الكتاب شجاعة الخروج عن مناطق الأدب المريح، واستفزاز القارئ ومصارحته بحقيقة العالم، وبأن الأدب الذي نقدس كونه نافذة على عوالم سارة ماتعة، يغدو أحيانًا نافذة على مواضع تسعى عقولنا في العادة جاهدة إلى إنكار وجودها، والانفصال عنها وحجز المخاوف العميقة المنبثقة منها. لماذا؟ لأن أقل حق لهذه المعاناة الجارحة أن تُعرف، أن تُقرأ وتُكرم وتُمنح بعد الخفاء جمهورًا. هذا الحزن الخالي من كل أناقة، هذه المأساة البعيدة كل البعد عن التنميق الهوليودي المسلي، هذه الجحيم المستعرة تامة الواقعية؛ ليوضع هذا كله على المسرح وليعوَّض عن التجاهل العالمي والخلو المعدم من المخففات.

أما وقد تخطينا الوصف الأولي، فقد أمسى بوسعنا سرد القالب العام لأحداث رواية شوجي بين ووصف وقائعها من غير تفصيل. إذا سألتني عن رأيي، فإن فقرة أو فقرتين لن تكفيا أبدًا لإفساد رواية اجتماعية طويلة على من لم يقرأها. لكني عُلِّمت الاحتياط فسأنصحك بتجاوز هذا المقطع إذا كنت من محبي دخول الرواية بعمى كامل وفضول شامل لما يقبع وراء ستارتها الحمراء الصامتة غير المنبئة. لا تحسب أني لا أتفهم، فأنا نفسي مثال لهذه الحال أوقاتًا كثيرة.

نبدأ قائلين إن قطاعًا كبيرًا من قراء الرواية قارنها برواية Trainspotting الشهيرة الحائزة على فيلم أشد شهرة وثباتًا في الذاكرة. لأن التيمة العامة وتركيز الرواية الأصلي على الإدمان؛ إدمان الكحول بالذات، ومثاله هنا امرأة هجرت زوجها الأول الصالح بحثًا عن حياة أكثر إثارة وأحلام اتضح لاحقًا أنها غير واقعية.

في كنف زوجها الجديد يولد شوجي بين بطل الرواية وحامل اسمها، في المدينة الإسكتلندية غلاسكو في ثمانينيات القرن الماضي، وفي حقبة مارجريت ثاتشر المكروهة بعنف هناك. هذه التقدمة قد تكون كافية؛ رواية أخرى بارعة البيان عن تأثير القرارات السياسية العامة على الحيوات الصغيرة؛ انعكاس سير الآدمي الضخم على النمال التافهة. تقريب الصورة يعد بالكثير ويفي، فنرى حياة الفتى مع امرأة مدمنة خمر وما ينتج عن ذلك من معاناة تعسر على الوصف المختصر.

الحوارات مكتوبة بالعامية الإسكتلندية لتأكيد أصالة الرواية وتوثيق جوها. كل ما في الصفحات كابوسي فلا مجال هنا للمرح، غير أنها لا تخلو من الحضور الإنساني الذي يظهر لك الضحك في مقابل أكوام الدموع. كاتبها Douglas Stuart يعرف ما يحكي عنه، وتتجلى براعته في أبهى صورها في ثلاث مشاهد على الأقل تعلق بالذاكرة لما تنبض به من حياة تثير الشجن، لحسن وصفها وأيقونية موضوعها.

قبل أن أختم -حتى لا يبقى شيء في نفسي- أذكر أن الرواية خطوة على خط الترويج الغربي للمثلية الجنسية التي أراها مرضًا يستحق العلاج ويرونها عادية، في خط أكبر -بطبيعة الحال- لطمس القيمة الشرعية والأخلاقية. ولو كانت الرواية أكثر محورية في تناول الموضوع وتأصيله لما كتبت عنها أصلًا، وهو ما أفعله عادة في ترشيحاتي. لكن الواقعية تقضي بأنك لا تكاد تجد رواية غربية -أو منتجًا فنيًّا غربيًّا بشكل عام- يخلو مما يصطدم بمنظومة قيمك ومقررات إيمانك، وتقرير المثلية وتأصيل طبيعيَّتها في الأذهان ليس عندي بأشد من كثير من المقررات التي تخالف بكل وضوح مرجعيتنا الإسلامية وتراها منثورة في كل منجزات ثقافتهم.

جدير بالذكر أيضًا -حتى لا يصاب القارئ بصدمة- أن بالرواية عددًا من المشاهد المقبضة المحطمة للقلب والبالغة درجة إثارة الاشمئزاز أحيانًا، عن الاغتصاب والاعتداءات البدنية والعاطفية وغير ذلك. هذا النص الإنساني باهر السرد محكم البناء قوي الشخصيات عظيم الثراء، لكنه لن يمنحك سره إلا أن تعاني أنت الآخر، ولعل في هذا معنى مهمًّا وقدرة محمودة على نقل قلب الرواية لقارئها والوصول إليه بأسرع قطار.

لقد مرت سنوات منذ أعلنت لجنة البوكر عن كتاب فائز لم تتهم على إثره بالتحيز السياسي المشوش للتقييم الأدبي، وإنه ليبدو من التلقي المبدئي لرواية شوجي بين للكاتب دوجلاس ستيوارت -والأيام تكشف المزيد دومًا- أن لجنة جائزة البوكر اختارت أخيرًا شيئًا لا يستفز كثيرًا من المتابعين، سواء حين بلغت الرواية القائمة القصيرة أو بعد الإعلان القريب عن تتويجها ملكة قائمة أفضل روايات عام 2020.

لك أيضًا: