الملائكة تسكن المكتبات: المكتبة البشرية استعارة الأشخاص بدلًا من الكتب

“الملائكة تسكن المكتبات“.. جملة وردت ضمن سياق فيلم “مدينة الملائكة”، تستحق التأمل في عصر التكنولوجيا وثورة المعرفة واحتدام المعركة بين الكتب المطبوعة والأجهزة اللوحية المحمولة والثابتة وظهور مفهوم المكتبة الرقمية.. ولكن، هل يمكنك أن تدخل مكتبة الكتب لتجدها وقد تحولت إلى مكتبة لاستعارة الأشخاص بدلًا من الكتب تحت مسمى “المكتبة البشرية The human library“؟

“الانطباع الأول يدوم للأبد“.. في الأغلب سمعت هذه الجملة في محيطك آلاف المرات، وبالأخص أثناء عملية التنشئة الاجتماعية. بالتأكيد حذرتك والدتك مئات المرات قبل أول يوم دراسي جديد أن تكون ولدًا مطيعًا لأن “الانطباع الأول يدوم للأبد” كذلك عندما ذهبت لإجراء مقابلة عمل حذرك أصدقاءك أو المتخصصين عن نصائح هذا النوع من المقابلات أن تهتم بشكلك وطريقة كلامك لأن مرة أخرى “الانطباع الأول يدوم للأبد” مئات ومئات من المواقف المشابهة.

فما كل هذه الضجة عن الانطباع الأول التي تشكل جزءًا كبيرًا من علاقات ستمتد لفترات طويلة؟ هل تنمط عقولنا كل الأشياء والأشخاص بهذا الشكل؟

المفاجأة عزيزي القارئ أن الإجابة: نعم.

لم تغشك والدتك، كذلك أصدقائك عندما نصحوك بالاهتمام بالانطباع الأول الذي ستتركه عند الآخرين لأنه وببساطة المخ البشري لا يعرف الرحمة! فلو كان هناك عدو واحد للمخ، أو بالأخص العمليات العقلية العليا سيكون هو المعلومات المبهمة مجهولة المصدر.

دعني أبسط لك الأمر قليلًا بمثال مضحك، الطفل مثلًا عندما يتعرف لأول مرة على سائل الدم فما يحدث في عقله هو ما يشبه فتح ملف جديد على جهاز الحاسب الآلي، ويضع به هذا الشكل ويسميه “الدم”، والمرة المقبلة التي سيرى بها سائلًا مشابهًا للدم بشكل كبير، ليكون صوص الكراميل مباشرة سيدركه المخ على أنه دم لأنه الملف الوحيد الذي يطابق بنسبة كبيرة هذا الشكل، فهو يرفض أن يكون أمرًا مجهولًا لديه، لذلك يصنفه بناء على أقرب مشابه له، ففي المرة القادمة التي ترى بها طفلًا يقول على صوص الكراميل دم أو على الكرة برتقالة، تذكر أن عملياته المعرفية حاولت أن تحارب جهلها.

وبتعميم ذلك الأمر على صعيد أكبر، سنجد أن المجتمع الذي يتكون من عدة أفراد يتكونوا من عمليات معرفية عقلية يرفض بشكل كبير أن يكون عاجزًا على فهم سمات شخص ما لذلك يلجأ للتعميم أو ما يمكن أن نطلق عليه في هذه المرحلة “الصورة النمطية – stereotype” والتي تعرف على إنها “تعميم جامد على الأفكار والمعتقدات التي تتعلق بالفرد أو الجماعة أو اية موضوعات بحيث تتسم بالجمود وعدم المرونة والقابلية للمناقشة والتغيير” وفقًا لـ فرج عبد القادر طه.

اقرأ أيضًا:

لا شك أن الأعمال الفنية بشكل عام والأدبية بشكل عام تساعد بشكل كبير على ترسيخ هذه الأفكار النمطية، فسنجد مثلًا تصوير الشخص المصاب بالاكتئاب يكون عبارة عن وصفه بالحزن الشديد وارتسام دائم لعلامات البؤس على وجهه، لا يضحك وكثير الانعزال في حين أن في الواقع مريض الاكتئاب لن يكون بهذه الصورة المبالغ فيها من الحزن.

كذلك صورة المرأة النسوية في الأعمال الأدبية أو حتى السينمائية هي سيدة في الأغلب قبيحة -وفقًا لمعايير المجتمع للجمال غير الواقعية- تصيح دائمًا في كل موقف ولا تفعل أي شيء سوى النفور من الزواج وكره الرجال، في كتبها وفي ندوتها وفي أحاديثها مع الأصدقاء، وبل وتفطر في الصباح كره الرجال، في حين أن كثير من النسويات متزوجات أو في علاقات غرامية ناجحة فهي فقط تدافع عن السيدات التي لم تستطيع أن تنال حقوقها الطبيبعة جدًا كالحق في العمل أو التصويت أو الميراث. وهكذا تختلف في كثير من الأحيان الصورة الواقعية عن تلك الموجودة في الكتب.

اقرأ أيضًا:

رجوعًا للقرن السادس عشر ميلاديًا، وبالأخص في مقاهي لندن، ستجد أن بجانب تقديم مشروب القهوة المكتشف حديثًا، والكثير من الكتب واللوحات الفنية المرصع بها جدران تلك المقاهي، هناك طقس اجتماعي مهم يدور بشكل غريزي جدًا وهو “الدردشة” فبمجرد وجودك في تلك المقاهي هو موافقة ضمنية على النقاش مع أي شخص في أي موضوع، حيث كان الشعار المتعارف عليه “ما الجديد لديك”.

وإن كنت أعجبت بالفكرة وبكم الحميمية والقرب الإنساني التي حققته هذه المقاهي في القرن السادس عشر يمكنك أن تعايش تجربة مشابهة لها تمامًا فيما يعرف بـ “المكتبة البشرية” التي لاقت رواجًا كثيرًا في بلدان منها الدنمارك.

في المكتبة البشرية تمكنك من استعارة شخص تحت تصنيف خانة ما، والتي من الأغلب ستكون مرتبطة بأفكار نمطية، مثل: اللاجئين أو مرضى اضطراب الشخصية الحدية، أو حتى موظف عادي. المهم الغاية النهائية أن تتمكن من سماع قصة حياة شخص آخر يعايش جوانب أخرى من الحياة قد لا تتيح لك الفرصة على اختبارها يومًا.

حينئذ سيكون الفرد قادرًا على التوحد مع معاناة الآخر، أو على الأقل فهمها مما سيؤدي بالتأكيد بشكل كبير إلى تقليل العنصرية والعنف الناتج عنها، وبما أن الجهل هو عدو العقل الأول فعندما يزول هذا الجهل، بالتالي لن يكون هناك ضرورة لمحاربة هذا العدو.

الفكرة الأساسية التي تقوم عليها المكتبة البشرية ليس “لا تحكم” ولكن “غير حكمك”، هل تذكر الجملة الرنانة التي بدأنا بها المقال حول “الانطباعات تدوم للأبد”؟ هي بالفعل كذلك.

فإذا أخذت انطباعًا عن فئة معينة من الأشخاص المختلفين عنك على أنهم غريبو الأطوار بسبب مقابلتك لفرد منهم بهذه المواصفات، فإن هذا الانطباع سيدوم للأبد، إن لم تتسنى لك الفرصة أن تسمع وتعرف الحكاية كاملة، وعندها فقط قد تغير حكمك الأول أو يثبت بالأدلة المادية، المهم أن يكون في النهاية هو حكمك الشخصي تمامًا.

وبناء على هذه المميزات التي تقدمها بدأت تلك المكتبات في الدنمارك منذ 20 عام تقريبًا، وامتدت حاليًا لأكثر من 70 دولة منهم الولايات المتحدة والممكلة المتحدة.

وعن الوطن العربي تم تطبيق التجربة في مصر في عام 2016 التي بدأتها المهندسة أسماء إسماعيل ومن ثم شاركها آخرون في إعداد جلسات في عدة أماكن في القاهرة.

كما يحرصوا على اختيار أشخاص ذوي تجارب مختلفة يمكن من خلالها إفادة القراء الذين ينضمون لجلسات المكتبة البشرية، حيث يجلس المشارك/الكتاب في مقابل مجموعة من القراء، ويبدأ في سرد قصته وبدورهم يتفاعلون معه وهكذا.

كذلك صدر تصريح من مدير إدارة الآداب بالإنابة في هيئة الثقافة والفنون في دبي الكاتب محمد الحبسي عن أهمية المكتبة البشرية في سبتمبر الماضي مضيفًا أنه في المستقبل القريب سيتم تعميم التجربة بشكل كبير في الأنشطة الثقافية في دولة الإمارات.

عزيزي القارئ، تخيل أن تمتلك لمدة من الوقت كتابًا بشريًا متكلمًا مليئًا بالخبرات، التجارب، المعلومات، المشاعر والإجابات عن الأسئلة التي تتخيلها ولا تتخيلها! أنا أعتقد أن هذا الكتاب البشري هو أقيم من مكتبة كاملة، تقف كجماد صامت.. وأنت ماذا تعتقد؟