تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

السينما وصناعة الثقافة.. هل التسلية “أداة اختراق” لها وجه آخر؟

السينما
محمد علواني
محمد علواني

9 د

السينما بنت الحداثة، ورديفة النظام الرأسمالي، كما أنها تصلح تمامًا لتكون أيديولوجيا ذات وجهين؛ إذ لا تعدو كونها أداة، ومن ثم تمكن إدارة دفتها وفق أهواء ومصالح القوى المتحكمة فيها. لكن المعروف أن العمل على استخدام التسلية استخدامًا ماديًا اقتصاديًا بحتًا قد جرى على أيدي الرأسماليين الأوائل؛ فإذا كان قد أصبح محتمًا أن يستريح العمال لبعض الوقت، أو يحظوا بيوم أو يومين إجازة في الأسبوع، فلماذا لا نقدم لهم الآليات التي تضمن لهم المتعة وتضمن لنا الربح؟

هكذا فكر الرأسماليون، غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما أمست الشاشات والألعاب وشتى وسائل التسلية، تحمل، شيئًا فشيئًا، فكرة معينة تصب في النهاية في صالح هؤلاء القوم الذين جندوا المتعة لصالحهم.

والسينما -في ماضيها أو حاضرها- ليست في منأى عن ذلك، ولا هي بعيدة عنه، وإن كان عصرها الأول قد شهد بعض الأعمال التي تنبأت بما نحن فيه، وحذّرت وبأسلوب ذكي من مغبة الجشع الرأسمالي، فكّر على سبيل المثال في فيلم شارلي شابلن الشهير Modern Times.

اقرأ أيضاً: أبرز أفلام المخرج المجري بيلا تار صاحب النظرة الفلسفية التشاؤمية


من الأيديولوجيا إلى الصورة

إذا كانت الفترة من نهاية القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين قد أطلق عليها "عصر الأيديولوجيا"، وهي تلك الأطروحة التي كانت سائدة في كتابات المفكرين السابقين، وتم استخدامها كأداة للتحليل والنقد، فإن العصر الجمالي هو الصورة التي حلت محلت الأيديولوجيا في الوقت الراهن؛ إذ كان اللجوء إلى الخطاب الجمالي ضرورة لا بد منها؛ فالطبيعة بحاجة إلى اليوتوبيا والخطاب الجمالي أكثر من الأيديولوجيا،؛ لأن هذه اليوتوبيا تفتح الواقع على الممكن بينما تعمل الأيديولوجيا على تكريس حتمية الواقع وتشيُّؤ العلاقات القائمة. الفن، إذًا، هو البديل المطروح للخروج من وهدة التشيؤ والاغتراب التي زلق فيها الإنسان الحديث.


ادورنو

سوى أن هاهنا أمرًا لا بد من الإشارة إليه؛ حيث أن "ثيودور أدورنو" حذر في كتابه "نظرية الاستطيقا" من تحول الفن إلى يوتوبيا قائلًا:


"إن الفن لا يجب أن يتحول إلى يوتوبيا حتى لا تخونه هذه اليوتوبيا عن السلوى والعزاء الفارغ".

ليس في الأمر من تناقض، فإذا كان اللجوء إلى اليوتوبيا ضرورة فإن هذه الضرورة مرهونة بأن تذكر الإنسان بعذاباته وآلامه التاريخية حتى يتمكن من التخلص والتحرر منها، فما الفن سوى تحفيز للوعي لتغيير العالم إلى الأفضل. وهذا التغيير إلى الأفضل، وفتح الواقع على الإمكان، على حد قول الوجوديين، لن يكون إلا عبر تنمية ملكة "الخيال" وحفزها والدفع بها إلى الأمام.

والخيال في هذه اللحظة يقوم بنفس الدور الذي تقوم به الفلسفة في الظروف التاريخية المماثلة؛ إذ هو يعارض مبدأ الواقع الحاكم وما يمليه من أحوال ضيقة النطاق، وتاليًا يقدم آفاقًا لمستقبل يختلف عن الوضع الراهن اختلافًا نوعيًا.


السينما وصناعة الثقافة.. الوجه الآخر للمتعة!

يذهب منظرو مدرسة فرانكفورت، وبالتحديد هوركهايمر وأدورنو، إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية قد حالت دون اتخاذ التاريخ مجراه الحتمي، وطبقًا لتحليل هؤلاء المفكرين فإن وسائل الإعلام قد أفسدت عقول الجماهير، كما أن البشر في الطبقة العاملة قد تم استدراجهم إلى ثقافة الاستهلاك؛ حيث انغمسوا في الثقافة السطحية والمبتذلة التي تقدمها الثقافة الشعبية، ومن ثمّ فقدوا الاهتمام بهوية طبقتهم ومصالحهم الخاصة.

وقد لاحظ هؤلاء المفكرون، منذ وقت مبكر، العمل على تجنيد المتعة واستخدامها من أجل تعزيز مصالح بعينها، على رأسها تحفيز النزعة الاستهلاكية، وبالتالي يمكن القول إن السينما -كأحد آليات المتعة- قد تسهم في اغتراب الإنسان ومحو وعيه النقدي، إذا كان يقف وراءها أساطين الرأسمالية.

لم يخف منظرو مدرسة فرانكفورت، والحال كذلك، وقوفهم ضد النزعة الاستهلاكية الفجة، وهو ما نجده مثلًا في توجيه النقد للمؤسسات الإشهارية، التي رأى فيها "هربرت ماركيوز" إحدى أدوات النظام الرأسمالي، الذي لا يكف عن تذكير الزبائن باستمرار عن طريق الشاشة أو وسائل الإشهار المختلفة بمآثر الحياة الاستهلاكية التي يحيون في كنفها، فعبر هذه الآليات تكون الأفراد أغراضًا ومواضيع، بل دمى يتلاعب بها الرأسماليون كيفما شاؤوا.

يحتل قطاع الإعلام والسينما مكانة القلب من الجسد في المجتمع الرأسمالي، ليس هذا فحسب، بل إن كل القطاعات صارت تابعة له، فهو القطاع المسؤول عن قولبة وعي الجماهير وتعليبه ووضعه في إطار واحد وعلى سكة واحدة وهي سكة النظام الرأسمالي، حتى لقد أمسى المجتمع والفرد كلاهما أحادي البعد، لا يسير إلا في اتجاه واحد ولا ينظر إلا بعين واحدة.

فإلإعلانات لا تنفك أبدًا عن تغذية سعار الاستهلاك وتشكيل الأذواق والاحتياجات؛ عبر آلياتها وميكانيزماتها الخاصة، كما أن هذه البضائع المتوافرة بكثرة خلقت لإنسان العصر الحديث نوعًا من التسلية، غير أن هذه التسلية لا تُقدَّم لهذا الإنسان من أجل سواد عينيه، بل إن الهدف منها هو تأبيد النظام الراهن بنزعته الشمولية؛ فالتسلية تعني -كما يحلل "هوركهايمر" و"أدورنو" في كتابهما المشترك "جدل التنوير"- ألا تفكر بشيء، وأن تنسى العذاب حتى يبدو ظاهرًا للعيان، يتعلق الأمر فعلًا بشكل من أشكال العجز، حتى إن هذا الموقف قد يعد هروبًا من جحيم الواقع وعذاباته.

إلا أن الخديعة لا تكمن في كون الصناعة الثقافية قد عرضت التسلية، بل في كونها تفسد كل لذة؛ إذ تسمح للاعتبارات المادية والتجارية باستثمار كليشيهات أيديولوجية لثقافة تسير نحو التصفية الذاتية، فالتسلية المقدمة للأفرد لها دور واضح ومحدد، فهي من جهة، تقنعه بأفضلية الوضع الراهن وتوهمه بأن المجتمع الحالي هو الفردوس الأرضي، ومن أخرى، تسد الأفق أمامه ليفكر في مجرد التغيير؛ إذ إنه لا يستفيق أصلًا من خمرة البضائع والمنتجات التي تعج بها حياته كلها، إلى حدٍ صار هذا الإنسان عبدًا لهذه الأدوات التي هو يملكها والتي صنعها هو أصلًا بيديه.

وباعتبار أن العلاقة واضحة وجلية، إذًا، بين "الوجود والتملك"، وهو ما أشار إليه من قبل "جابريل تارد " ومن بعده "اريك فروم" وحاصل القول فيها أن الأشياء تستعبد الإنسان قدر ما هو يملكها تمامًا، والرأسمالية تفهم هذه الحقيقة جيدًا وتعمل على استثمارها الاستثمار الأمثل.

ولن يكون بوسع الفرد في ظل هذا المجتمع المؤتمت أن يفكر حتى في مجرد التخلي عن هذه التسلية حرصًا منه على وعيه الشجاع والثوري، خاصة وأن التسلية صارت مفروضة بالقوة على الجميع، حتى أنه لم يعد ثمّة مهرب للسلع والبضائع إلا إليها، فكل الطرق تؤدي إليها، وفي عصر التوسع الليبرالي راح اللهو يتغذى من إيمان لا يتزعزع بالمستقبل، مفاده "الأشياء ستبقى هكذا بل ستكون أفضل فيما بعد" على حد قول مؤلفي كتاب "جدل التنوير".


السينما وصناعة الثقافة.. مفهوم إرجاء اللذة


ارجاء اللذة

إذا كان "الفن وعدًا بالسعادة"، والعبارة لـ "ستندال"، فإنه لا يجب أن ننسى أيضًا أنه تسجيل للآلام المتراكمة من خلال التاريخ في مجتمع لا يكف عن الصراع والصدام. إن الفن باحتجاجه على السائد والراهن والموجود والمعطى سلفًا، وعن طريق فصل نفسه بنفسه عن الواقع الاجتماعي ومؤسساته التي شوهت الحياة، لا يكف عن محاولة خلق عالم مغاير يتفتح فيه الوجود الإنساني ويزدهر بعيدًا عن العقلية التي لا تفهم إلا منطق المادة والرأسمال.

واللافت حقًا أن الصناعة الثقافية لا تكف عن كبت المستهلكين والتنكب عما وعدتهم به، فصك اللذة أو بالأحرى صك الحصول عليها صك مؤجل إلى ما لا نهاية، إذ يكون الوعد بالمتعة واللذة والتسلية ما هو إلا وهم لا يمكن الوصول إليه. واضحٌ أن رأسمالية الاستهلاك والاحتكارات قد أحكمت قبضتها على الواقع الاجتماعي برمته، وقد نالت الحسنين معًا، فلا هي منحت اللذة والتسلية ولا هي تعرضت لأزمات جراء الوعي المختلف عما تقدمه، فالناس غارقون في وهم الاستهلاك وأيديولوجيا الترف.

وإذا كان "أدورنو" قد عارض استخدام المتعة من قبل الرأسمالية، فإنه لم يكن يضحي بها، أي بهذه المتعة، أو يقدمها قربانًا على مذبح النقد الاجتماعي، إنما هو فقط يعارض مفهوم المتعة الناتج عن السلعنة وتصنيع الثقافة فحسب. ولقد دفع تصحيح مفهوم المتعة بـ "أدورنو" إلى إسناد وظيفتين للاستطيقا (النظرية الجمالية) هما: تحيقيق المتعة المضادة للابتذال والترفية والتسلية، والقيام بوظيفة نقد نسق العقلنة وتفكيك خطاباته.

وعلى ذلك فإن نظرية صناعة الثقافة على حد قول "فردريك جيمسون" ليست نظرية في الثقافة، بل هي نظرية في الصناعة؛ ذلك لأن آثار الصناعة على الموجود الإنساني كانت وخيمة، وما الثقافة في هذا الصدد إلا حدثٌ طارئٌ وعابرٌ، حيث إنه تم استخدامها لتحقيق أهداف الصناعة فقط، ولقد بلغ تأثير الصناعة الثقافية مبلغًا كبيرًا في المجتمع الرأسمالي المتأخر.


الشاشة والمشاهد المصاب بحمى السرعة

لقد أثرت الحداثة المتأخرة، وانعكاساتها الجمة على ذائقة مشاهدي السينما، فصاروا يريدون مشاهدة ما هو في أذهانهم وحياتهم من سرعة وهوس وعدم أمان على الشاشة، فـ "المشاهد الفائق، حسب تعبير راوية صادق في تقديمها لكتاب "شاشة العالم"، يريد أن يشعر بانفعالات وصدمات متجددة: الجدة، السرعة، التنوع، الضخامة، الآن، فورًا" (شاشة العالم، ليبوفتسكي، ص 10)


جيل ليبوفتكسي

"كل شيء، إذًا يتضخم -حسب قول جيل ليبوفتكسي في كتابه "شاشة العالم، ص 10، 14، 52)- كل شيء يصل إلى حده الأقصى ويصبح مثيرًا للدوار، خارج الحد، .. لقد انتقلنا من شاشة واحدة إلى شاشة كلية الأبعاد".

إننا، والقول أيضًا لجيل ليبوفتسكي، في عهد شاشة الكون، الشاشة في كل مكان وفي كل لحظة، في المحلات وفي المطارات، في المطاعم وفي البارات، في المترو، في السيارات وفي الطائرات، شاشات بكل الأحجام.. فالقرن الذي يبدأ هو قرن الشاشة كلية الوجود، والمتعددة الأشكال، كوكبية ومتعددة الوسائط الإعلامية". والفرد الذي يشاهد هذه الشاشات، والذي تتوجه إليه هذه الشاشات في حد ذاتها، فرد مأزوم، أصابته حمى السرعة والاستهلاك، فلا زال مستهلكًا نهمًا، ولا زال يعدو من دون أن يصل.


السينما والحرية وأزمة الحداثة

إن انعطافة إلى الفن، كان لا بد منها؛ لأنه هو البعد الوحيد الذي يستطيع الإنسان من خلاله تجاوز السيطرة التي تهدده من كل جانب وبطرق وأشكال مختلفة، ومن ثم فإن الفن، والسينما، أداة تحرر وانعتاق أو بكلام آخر، باعتباره ملاذًا للإنسان وانعتاق من العقلانية المادية الصلبة التي أحكمت قبضتها عليه وهيمنت على شتى أبعاد وجوده.

ناهيك عن أنه يمكن اعتبار السينما، في حال تبديل طرائق استخدامها من قبل الرأسمالية، استراتيجية بديلة، وبعدًا مغايرًا لما هو قائم وسائد في المجتمعات الحالية وللسيطرة السائدة فيها، ولذلك أنيط بهذا الفن أن يقوم بدور نقدي نظرًا لما يتضمنه من صور خيالية مغايرة ومباينة لمقتضيات وآليات العقلانية الحسابية، التي لا تفهم إلا منطق الأرقام. كما أن الفن في ظل هذه الأزمات الراهنة للعصر الحديث صار بمثابة تحذير من كوارث ومعضلات أكثر خطرًا من الممكن أن تقع في المستقبل.

ولعل هذا هو بالضبط ما قصده "ثيودور أدورنو" عندما كتب في كتابه المشهور "نظرية الاستطيقا":


"لا يمكننا في الوقت الحاضر، التفكير في الفن بكيفية أخرى سوى كرد فعل لاستباق الأزمة".

ذو صلة

وعلى ذلك، يمكن القول إن الفن مفهوم فلسفي وممارسة ثقافية وشكل جمالي، ولكن على نحو يجعله حاضنًا لعرض ومنطويًا على قوة الفن وحافظًا لليوتوبيا وناقدًا للمجتمع الاستهلاكي القمعي ومقاومًا للتسليع الثقافي والتشيؤ وكاشفًا لصناعة الترفيه والوهم.

ومن هنا فإن ثمة مهمة حضارية كبرى ملقاة على عاتق السينما والفن عمومًا، ومن الواجب عليه القيام بها، وهي تلك التي تتمثل في تفكيك آليات المجتمع التحكمي ومحو آثار التشيؤ الشامل والفيتشية المعممة وتعرية الوجه الآخر للحداثة الأداتية، وكذلك فضح آليات الصناعة الثقافية وميثولوجيتها، على حد قول عبد العالي معزوز. إن هذه المهمة التي أنيطت بالفن نابعة من تصور "تيودور أدورنو" وقناعته التامة بأن الفن الجاد ما هو إلا محاولةٌ نقديةٌ في المقام الأول، ومن المحتم عليه أن يكون كذلك.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة