الرجال في “107Mothers”.. قتلى في قصص السجينات
5 د
غاب الرجال تمامًا عن فيلم 107 Mothers، فالسجينات والحارسات والممرضات والطبيبات والعاملات وأقارب السجينات المتعاطفات معهن أو الناقمات عليهن كلهن سيدات، وخلا الفيلم تمامًا من الرجال ولم نجد لهم أي تواجد بالفيلم إلا من خلال حكايات النساء عن الرجال الذين قتلوهن سواء كانوا أزواجهن أو تربطهن بهم علاقات عاطفية، فالرجال في الفيلم قتلى في قصص السجينات.
الفيلم تأليف وإخراج بيتر كيريكس وبطولة مارينا كليموفا، وليوبوف فاسيلينا وهو التجربة الروائية الأولى للمخرج بعد أعمال قدمها في السينما الوثائقية، ويطرح بيتر من خلال الفيلم قصصًا حقيقية لأمهات سجينات في سجن أوديسا بأوكرانيا، ويُعد الفيلم بمثابة فيلم درامي وثائقي، فهو يقدم حكايات درامية حقيقية على لسان البطلات المسجونات.
يحكي لنا الفيلم مجموعة من القصص لسجينات تم إيداعهن بالسجن عقابا على ارتكابهن لجرائم قتل، القصص تتشابه في بعض التفاصيل وتختلف في أخرى، لكن جميعها تؤدي بهن إلى السجن برفقة أطفالهن الذين أنجبوهن داخل جدران سجن أوديسا، تأتينا الحكايات على ألسنة السجينات في عدة مشاهد متفرقة، لنجد أنفسنا أمام قصة درامية يتخللها بعض السرد القصصي الذي استخدم فيه المخرج أدوات السينما الوثائقية، دون أن يشعر المتفرج أنه غادر القصة الدرامية الرئيسية وبطلتها ليزيا التي يتم إيداعها بالسجن إثر جريمة قتل أقدمت عليها بسبب الحب والغيرة مثلما روت للحارسة، ويحكم عليها بالسجن ٧ سنوات في سجن أوديسا الذي تنقل إليه بصحبة طفلها الرضيع فور ولادته مباشرة، ويعرض الفيلم المعاناة التي تحياها الأمهات المسجونات بعد حرمانهن من أطفالهن حديثي الولادة لمدة ١٤ يومًا يتم خلالهم إيداعهن في الحجر الصحي قبل تسكينهن في العنابر، ويحرموا من رضاعة صغارهن مجسدًا معاناتهن في التخلص من لبن الرضاعة خلال فترة الحجر الصحي لتخفيف حدة آلام عدم الرضاعة والألم النفسي الأشد عند سكبه وهي تعي أن رضيعها محرومًا منه.
قدم المخرج النساء بصورة إنسانية بحتة لا بصورتها المعتادة التي يصر الجميع على وضعها داخلها، فالنساء في الفيلم "إنسان" ولم يتطرق لهن بصورة جنسية ولم يتعامل مع أجسادهن العارية على أنها مصدر للإثارة الجنسية إنما هي إنسان يملك قلبًا وروحًا وعقلًا وجسدًا معذبًا يضم القوة والألم مجتمعين، بدأ الفيلم بمشهد الولادة المؤلم ليجسد لنا الحياة وهي تنبض من داخل الألم والمعاناة، ثم انتقل بنا إلى سجن أوديسا لنسمع قصص جرائمهن اللاتي ترويها كل منهن للحارسات والمشرفات، لنرى أن النساء اللاتي وهبن الحياة منذ دقائق أحيانًا يسلبونها من آخرين.
يستمر الصراع رغم هدوء الأحداث الذي لم يُفقد الفيلم إيقاعه، ويأخذنا المخرج يوميًا في زيارة الأطفال ذهابًا وإيابًا مع الأمهات ليلعبن مع صغارهن في المبنى المجاور لعنابر السجينات، ونرى كل منهن حين يجيء دورها لتعد حلوى عيد الميلاد الثالث لطفلها، لنعرف أن لوائح السجن تحتم على الأم التخلي عن طفلها بعد أن يكمل عامه الثالث إما بتولي رعايته من قبل أحد أقاربها لحين خروجها أو يتم إيداعه إحدى دور الأيتام وتفقده للأبد، فنجد الأمهات تصنع حلوى عيد الميلاد بيدها لتقدمها لطفلها في احتفال صغير لا يحضره سواهما، وهو تقليد تحياه كل منهن بحزن لأنها تعلم أنه احتفال ينتهي بفراقها للطفل وإيداعه دارًا للأيتام في حال عدم وجود أقارب للأم أو رفضهم تولي مسؤولية الطفل، وهو الصراع الذي ظلت ليزيا تعانيه خشية أن تفارق طفلها ونجدها تطلب من أمها وأختها تولي رعايته لحين خروجها خاصةً بعد رفض المحكمة طلب العفو عنها، لكن الأم والأخت ترفضان وتجد ليزيا نفسها مضطرة لاستجداء حماتها وأم زوجها المقتول لاستلامه وتوافق الجدة بشرط أن تختفي الأم تمامًا من حياة الطفل عقابًا من الحماة عما اقترفته ليزيا من ذنب بارتكابها جريمة قتل ابنها، وترفض ليزيا وتودّع طفلها في عيده الثالث مجبرةً والألم يعتصر قلبها ويتم إيداع الطفل بإحدى دور الأيتام.
يطرح الفيلم قصص السجينات وقتلهن لأزواجهن أو أحبائهن في سرد يأتي على ألسنتهن ردا على أسئلة الحارسة والمشرفات وينتقل بين حكاياتهم الماضية وواقعهن الأليم في السجن وبين معاناة الحارسة، فلم ينقل بيتر معاناة السجينات فقط بينما نقلت لنا أحداث الفيلم معاناة السجانة أيضا، فهي أيضا حبيسة وظيفتها التي تسجنها داخل وحدتها ويصور لنا معاناتها وافتقادها للونس التي تحاول تعويضه بقراءة الخطابات المرسلة إلى السيدات والتعطش لكلمات الغزل التي تكتب لهن على أوراق مرسلة إليهن من أحبائهن الذين ينتظرونهن في الخارج.
تتصاعد الأحداث شيئا فشيئا بذات الإيقاع المتأني فتتلاقى معاناة السجينة مع معاناة ليزيا التي تتابع أزمتها واستجدائها لأمها وأختها وحماتها عبر التصنت على مكالمتها الهاتفية معهن، فتشفق عليها دون أن تظهر أي تعاطف خاصة مع التقارب الإنساني الذي يحدث بينها وبين الطفل وتنتهي الأحداث بإقدام الحارسة على تبني الطفل من دار الأيتام ممسكا يدها يجري ويلعب فرحا يتطلعا معا لغد أفضل.
جاء الفيلم هادئًا دون خلل في الإيقاع وكرر روتين السجينات دون إحساسٍ بالملل فقد عبر الفيلم عن صورة حقيقية لمعاناة المرأة السجينة، الحامل والأم ومعاناة الحارسة على حد سواء، رغم محاولات الحارسة في المحافظة على الصرامة والحزم وكذلك معاناة الأطفال عند فراقهم لأمهاتهم وحزنهم على فراقهم لزملائهم الأطفال المغادرين لخارج السجن سواء مع أمهاتهم المفرج عنهن أو بذهابهم إلى دور الأيتام، فالجميع داخل هذا السور سجين معاناته الخاصة.
عرض الفيلم من خلال فعاليات الدورة الـ 43 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن المسابقة الرسمية بالمهرجان وقد سبق وعرض الفيلم في سبتمبر الماضي بمهرجان البندقية الدولي في دورته الثامنة والسبعين، وشارك بمهرجان فينيسيا السينمائي وفاز بجائزة أفضل سيناريو، كما فاز أيضًا بجائزة أفضل مخرج في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي.
وجدير بالذكر أن الفيلم قد فاز مؤخرًا بجائزة أفضل فيلم ضمن جوائز النقاد العرب للأفلام الأوربية التي أعلنتها European Film Promotion (EFP) وذلك ضمن حفل أقيم خلال فعاليات الدورة الـ 43 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومن المتوقع فوزه بجوائز أخرى من خلال المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.