قدمت السينما العالمية للجمهور في عام 2018 العديد من أفلام الرعب كالعادة، ولكن وسط زحام أفلام الرعب والإثارة تفوق فيلم واحد على منافسيه بصورة كبيرة، وهو فيلم A Quiet Place والذي قدم لنا فكرة أصلية مختلفة وركز في الأساس على القصة نفسها وليس المؤثرات البصرية كبقية أفلام الرعب والإثارة في السنوات الأخيرة ونال إعجاب النقاد والجمهور.
واستطاع الفيلم أن يحقق أرباحًا تجاوزت 350 مليون دولار أمريكي وقد بلغت ميزانيته فقط 17 مليون دولار، ليثبت أن الأفكار الناجحة لا تحتاج إلى التكاليف الباهظة، وإنما فقط الابتكار والإبداع، وقد استطاع تحطيم خرافة سينمائية أخرى تقول بأن النجوم هم من يصنعون العمل فقد جاء الفيلم من تمثيل 6 أشخاص فقط، 2 منهم أدوار شرفية، وطفلين، إضافة إلى بطلة وبطلة فقط!.
ماذا بعد الأوسكار؟.. تعرف على الأعمال القادمة لأبرز الفائزين بالدورة 92
وفي هذا العام نحن على موعد مع الجزء الثاني من هذه التحفة الفنية الرائعة وتحديدًا في 20 مارس 2020، وهو تكملة لأحداث الجزء الأول الذي تحدث عن العائلة التي تعيش في مكان بعيد خوفًا من الكائنات الغريبة التي تصطاد البشر، وهؤلاء الوحوش لديهم نقطة ضعف وهي أنهم كائنات عمياء لا تملك أعين ولكن في المقابل لديها حاسة سمع قوية للغاية ولهذا فمن أجل البقاء حيًا يجب أن تظل صامتًا.
قصة الفيلم العبقرية
تتلخص عبقرية قصة الفيلم في عدم الاعتماد على الصوت، حيث ابتعد صناع العمل عن النمط الشائع في سينما العصر الحديث التي تتميز بكثرة الحوار الذي من خلاله يظهر الممثلين مهاراتهم، وقد يظن البعض بأن عدم الاعتماد على الأصوات أو الحوارات الطويلة هو نقطة ضعف خطيرة ولهذا لم يفكر أحد من قبل في تقديم فيلم بهذه الطريقة.
وليتغلب صناع العمل على الاستغناء عن الحوارات الطويلة فقد لجأوا إلى كتابة سيناريو محكم يعيد للأذهان أهمية السيناريو نفسه باعتباره وسيلة التعبير الأولى للمخرج وللمثلين على حد سواء، ولصعوبة هذا الأمر قام 5 مؤلفين بالاشتراك في كتابة قصة وسيناريو الفيلم الذي لم يحتاج إلا لـ 6 ممثلين فقط!.
وقد استطاع صناع العمل من مؤلفين وممثلين مبدعين ومخرج عبقري أن يوصلوا لنا القصة ويسردوها لنا بدون كلمات وبطريقة سهلة وبسيطة وذلك عن طريق الاعتماد على أمرين الأول هو اللعب على المشاعر الأساسية البسيطة وغير المعقدة، مثل الخوف من المجهول، حب العائلة، الأمومة والرغبة في البقاء وهي المشاعر التي وجدت منذ وجود الإنسان نفسه على الكوكب.
والعامل الثاني هو الاعتماد على التمثيل الحركي والتركيز على انفعالات الأبطال ونظراتهم، وهي لغة التواصل التي استخدمها الإنسان قديمًا وبرع فيها، وأيضًا استخدام لغة الإشارة للتواصل بين الشخصيات في المشاهد التي يعجزون فيها عن الحديث خوفًا من الوحوش، وهو ما دفع المشاهد العادي ليصب كل تركيزه على عينيه لمتابعة التفاصيل والنظرات والانفعالات وهو ما جعله ينتبه لأدق التفاصيل التي برع المخرج والممثلين في إيصالها له.
ما بين الأجزاء الثانية والأبطال الخارقين .. أهم الأفلام المنتظرة في 2020
أبطال العمل
لصناعة فيلم بهذه الجودة والحرفية العالية يجب أن يصبح هناك تناغم وتفاهم شديدين بين المخرج وأبطال العمل لإيصال كافة التفاصيل المهمة للمشاهدين، وهذا هو الأمر الذي جعل مخرج الفيلم يقوم ببطولته بنفسه، حتى يستطيع داخل المشهد نفسه أن يلاحظ تفاصيل من داخل المشهد نفسه لم يكن ليدركها لو كان خلف الكاميرات فقط وهو ما نجح فيه المخرج والممثل جون كراسينسكي بامتياز شديد.
ولكنه لم يكن لينجح وحده دون بطلة تشاركه العمل وتفهم أدق تعبيراته، وتدرك ما يريد أن يقول حتى دون الحاجة لأن يتكلم، وهذا التفاهم العالي برعت فيه النجمة إيميلي بلنت والسبب ببساطة هو أنها زوجته في الحقيقة وليس داخل الفيلم فقط، هذا إضافة إلى أداءها الفني العالي الذي برهنت عليه أكثر من مرة في أفلام مثل Edge of Tomorrow عام 2014 وأيًضا The Girl on the Train عام 2016.
ما هو الشيء المميز المنتظر في الجزء الثاني؟
قد يعتقد البعض بأن قصة الفيلم قد انتهت بنهاية أحداث الجزء الأول، فما الجديد الذي قد يتم تقديمه للجمهور بعد استنفاد المخرج والمؤلفين لخدعتهم في إثارة الجمهور من خلال المؤثرات الصوتية والخوف من المجهول، حيث أصبح الجمهور يعرف الآن ما ينتظره داخل الفيلم وبالتالي ضاع عامل المفاجأة.
ولكن من خلال الإعلان التشويقي للجزء الجديد يمكن ملاحظة أن صناع العمل أذكى بكثير من تكرار نفس سيناريو الجزء الأول، وأوضحت التوقعات والتسريبات إلى أن هناك المزيد من الوحوش الأخرى التي لا يعرف عنها الأبطال أو المشاهدين أي شيء، وستخرج العائلة من منزلها للتواصل مع العالم الخارجي ومحاربة خوفهم.
ولجعل الأمور أكثر إثارة وحماسًا للجمهور في الجزء الثاني فقد استعان المخرج بالممثل البريطاني المتميز كيليان مورفي في دور البطولة، وهو نجم غني عن التعريف للمشاهدين العرب ولمن لا يعرفه فهو بطل المسلسل البريطاني الناجح والمثير Peaky Blinders والذي يقوم فيه بدور رجل العصابات توماس شيلبي.
سيكولوجية التمثيل الصامت
كما سبق وأوضحنا في بداية المقال فقد استطاع صناع العمل استخدام السيناريو فقط في إيصال الأحداث والمعاني للجمهور وفهمها بصورة سليمة دون لبس أو عدم فهم، وهو ما يجعلنا نتساءل، هل بالفعل الإنسان بحاجة إلى الحوار من أجل أن يفهم العمل الفني؟، هل التمثيل يحتاج إلى الكلام من أجل إيصال المشاعر؟
والإجابة هي أن الحوار بالتأكيد عامل مهم جدًا من أجل أن يفهم الجمهور الأحداث، ولكن التمثيل في جوهره هو الحركة والانفعالات، فحتى الكلام لوحده لا يمكنه أن يوصل المعنى بشكل كامل، فعلى سبيل المثال إذا قال الممثل كلمة شكرًا وهو يبتسم فهذا معناه أنه ممتن، وإذا قالها بوجه عابس فمعناه أنه يسخر، وهذا خير مثال على فهم سيكولوجية التمثيل نفسها.
وهذه هي الحقيقة التي غابت عن كثير من ممثلي العصر الحديث، الذين أفرطوا في استخدام الكلمات الحوارية للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، في حين أن العين وتعبيرات الوجه وحركة الجسم هم الأسلحة الحقيقية للممثل، فهم الذين يظهرون على الشاشة للمشاهدين وليس اللسان الذي ينطق ويتكلم.
والتمثيل الصامت عبر التاريخ قد استطاع أن يؤكد على هذه الحقيقة ويبرهن على قوته في إيصال المشاعر المخيفة أو المضحكة على حد سواء، فقديما برع الممثل العالمي تشارلي تشابلن في الأفلام الصامتة أن يضحكنا دون أن ينطق وهو نفس ما قام به في العصر الحديث النجم البريطاني روان أتكينسون الذي قدم لنا شخصية مستر بين Mr. bean.
وبالنسبة لأفلام الرعب فقد استطاعت أفلام عريقة مثل Nosferatu عام 1922 وأيضا فيلم The Phantom of the Opera عام 1925 أن تخيف المشاهدين دون استخدام الحوار أو المؤثرات والحيل البصرية بل فقط من خلال القصة والسيناريو المحكم والتمثيل العبقري، وقد استطاع فيلم A Quiet Place عام 2018 في تقديم نفس الفكرة ولكن مع القليل من الحوار والمؤثرات الصوتية.