ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

إحدى عشرَ عامًا

وضعتُ فى قالب الحلوى رقم إحدى عشر، لم يكن صعبًا أن أجدَ في المكتبة  رقم واحد بين الشموع الرقمية، أخذتُ منه اثنين، فابنتى تخطت عقدها الأول بعامٍ وبدأنا نتوغل فى العقد الثاني.

ابنتى ليست فقط أول فرحة مُخيفة تولد بداخلي، بل هى أول عمرٍ جديدٍ يُكتَب لي، أول مشاعرٍ مختلفة، أول مفتاحٍ فتح لى بابًا على  شخصية وملكات ومهارات لم أعلم بوجودها داخلى إلا معها،بها تفتحت شخصيتى الحقيقية التى لم أنتبه لها يومًا، شخصيةٌ  كانت موجودة فى ركنٍ قَصىٍّ هناك داخلى، ولكن لم يحدث  فى الحياة ما يستدعيها حتى وُلدَت ابنتى، فخرجتُ من خانة المتفرج إلى خانة الممثل. أُُسند لى دورٌ بعد سنواتٍ من الحِفظ والتلقينِ والتأملِ والتأثّرِ بكل إشاراتٍ ولمحاتٍ وأحداثٍ وأنماطِ الحياة من حولى، فمع ولادةِ ابنتى؛ شعرت بأن دورى قد جاء لأعتلىَ المسرح وأبدأ الإلقاء. فى البداية  تقمصتُ دورَ الفتاةِ المتحمسةِ التى تلعب بدميتها الجديدة، ثم وجدتُ نفسي أبكي بهستيريا على المسرح…. أريد النوم، ودميتي ترفض أن تُغلق عينيها لدقيقةٍ واحدة،  ولعبتُ ذلك الدورَ ببراعة، فالبكاءُ لم يكن يومًا صعبًا ! تقمصتُ أيضًا  دورَ الممرضةِ فى إعطاء الدواء وضبط كمياته والتحايل على امتعاضِ دميتى من طعمه، دور بعد دور يزول الارتباك، وأجد نفسي أزدادُ صلابةً و تمكُّن وقوة، أؤدى أدوارى بأريحية وكأنى امتلكت خشبة المسرح، ثم أُفَاجَأ بدميتى الصغيرة تزدادُ طولًا، وخطواتها تزداد ثباتًا، تخطو ولا تنتظر مثلما انتظرت، تقتحم المسرح بابتسامتها المُحببة، وروحِها المُشرقة، واندفاعِها الذى كان لا يعرف الخوفَ، تُحيّي الجمهور وتسحب من تحتى البساط، وأنا أتراجع  بشغفٍ وحبٍ أتأملها وأفرش لها الأرض ورودًا. تُسعدني أدوارها الصغيرة التى تكبر مع الأيام، أُُعجَب بآرائها وشخصيتها التى ترتسم وتتشكل ملامحُها رويدًا رويدًا، تنظرُ إلىَّ حائرةً بين المشهدِ والآخرِ ، وغالبًا ما يكون الجمهور هو سبب حيرتِها، فإما أنه تشاغل عنها بالحديث أو استسلم  للنوم أو ضحك كثيرًا فترتبك، تتلاقى أعيُنُنا، أرتبك لارتباكها، وأحزن لحزنها، وأتوتر أضعاف توترها، فى حين أنها تحتاج إلى روحٍ قويةٍ ثابتةٍ متسعةٍ تدعمها وتخبرُها بأن  كل شىءٍ سيكون بخير، ولكنّى لا أقوى على ذلك، فبينى وبينها سلكُ كهرباء، أُضيء إذا أضاءت، وأخفت إذا خفتت، وأحزن إذا حزنت، ولا يسعني فرح الدنيا إذا فَرِحت وضَحِكت ضحكتها التى تُبهرني  وكأنى لم أعرف الضحكَ ولم أرَه من قبل، فعندما تُشرق ابتسامتُها ؛أشعرُ بأنها أصل الضحك ومنبع الابتسام فى العالم أجمع، وكل ما دونها تقليد..هل أبالغ؟!  أعتقد أنى أبالغ، ولكن المبالغة فى حق ” شمسى البرتقالى ” هى عينُ العقلِ، فإن لم أبالغ أمام دِفئها، فمتى أبالغ !

اليوم أتمّت إحدى عشَرَ عامًا، أنظر إليها على مسرح الحياة: طويلة ضاحكة مُستبشِرة، خجولة مُقبلة، واثقة ومرتبكة، تريد وتتمنى ثم تسكُن وتنسى، قدمٌ للأمام وأُخرى للخلف، هل اكتسَبت ذلك من قلقي وخوفي عليها ؟!،  فالقلق هو رفيقى الدائم، للأسف لا أملكُ له مانعًا ولا رادعًا،  ومعركتى اليومية تبدأ وتنتهى مع القلق والتأرجح بين محاولة قبوله وتحجيمه.

 إلى أى مدى اكتسبت شمسي وابنتى من قلقى؟!  أعتقد أنها اكتسبت منه القليل،  فلحسن الحظ تحمل جيناتَ والدِها الهادئة المُتناسية والمُتغافلة عن كل ما هو مزعجٌ فى الحياة، فتمزح كثيرًا فى محاولةٍ منها لمقاومة قلقٍ أنثره من حولها على فتراتٍ متقاربة؛ فتخلق بجيناتها ومقاومتها الناعمة توازنًا لم أكن أُُدرِك أننى أحتاجه، فهى النقيض منى فى كل شىء، أجد لديها ما ينقصنى وتجد هى لدي ما ينقصها.. أوليست تلك مادة خامٍ رائعةٍ للصداقة ؟!، أتمنى حقًا أن نُصبحَ أصدقاء، فقط لو أتخلص من دور الأم ومسؤولية ما يجب عمله…. الواجب المدرسى، الاستحمام ، الدواء، تحديد أوقات للتلفاز والموبايل، طعام متوازن، الفصل فى الخلافات مع أخيها، إبعادهم عن والدهم فى أوقات انشغاله، التأكد من أنه تم تسريح الشعر وغسل الأسنان بشكلٍ يومى، والامتحانات وما أدراك ما أيام الامتحانات!

لا أعلم إذا ما كنت أُُضاعف من صعوبة الأيام علينا أم أؤدى المطلوب، وما هو المطلوب بالضبط ؟! هل المطلوب هو ما يُطلب منا أم ما يجب فعله لتسير الحياة فى الاتجاه الذى يتماشى مع تركيبتنا وأولوياتنا؟، لا أعلم ولكنى متأكدةٌ من أن الضغوطَ المستمرة  تبني حاجزًا فى التواصل بينى وبينها، وعندما نتخلص من قائمة المهام المطلوبة ونتفنن فى فعل اللاشىء؛ هنا فقط تعود أسلاك التواصل لتُنيرَ من جديد فى رحلة غنية  لمدة إحدى عشر عامًا مع كائنٍ بدأ فى حياتى كدُمية ووصل إلى مكانة الصديق الغالى والرفيق المثالى.

بعد ولادتها فى شهر ديسمبر أصدرت أمي فرمانًا بمنع خروج الطفلة من الغرفه خوفا عليها من البرد القارس ولكن بعد أسبوع قررت الخروج بها إلى الصالة.  لففتُها بغطاءٍ سميكٍ، وضعتُها  أمامي على كنبةٍ وثيرةٍ وألبستُها “زعبوطا” ورديًّا فبدا وجهها المستدير، ،وهى نائمةٌ ساكنة، ملائكيًّا يغشاه السلام، وقررتُ أن تكونَ تلك اللحظة هى الأولى التى سأحتفظ بها لها وأحفرها  فى ذاكرتى، وإلى الآن كلما ذهبتُ إلى غرفتها لأوقظها من النوم؛ أجد أمامى تلك الصورة نفس الوجه المُغمض المُسالم الرقيق، فأتذكرَ أولَ بهجةٍ وأولَ عامٍ فى عمرٍ جديدٍ، وعالمٍ فريدٍ داخلى وخارجى دخلته فقط مع ابنتى ” شمسي البرتقالى “ كما أحب أن أسميها .. هى لا تعلم كم أحبها، ولكن يومًا ما ستعلم !