ريحان مرغم
ريحان مرغم

د

هجرةٌ أخرى، وتكتمل الحكاية!

عامٌ آخر يمضي، عامٌ آخر يطلّ. هل هناك جديدٌ في الأمر؟ قطعًا لا. هكذا الحياةُ، وهكذا سننها مذ خُلق الإنسانُ الأوّل؛ تتغير المسميّات ولا تتغيّر المجريات: الأحداث ذاتُها، والدروس ذاتُها ولكنّ المرء يأبى أن يعتبر. قد تختلفُ الشكليات، نعم، وقد يرافقها اختلاف في الفروع، غير أنّ الجوهر واحد كأنّ هذه السنين نسخ مكرّرةٌ لأصلٍ واحد.

رحم الله أبا العلاء المعريّ، فقد بصره، لكنّه لم يفقد بصيرته، فكان يقول:

من كان يطلب من أيّامه عجبًا فلي ثمانون عامًا لا أرى عجبا

الناس كالنّاسِ والأيام واحدة والدّهرُ كالدّهرِ والدنيا لمن غلبا

لكن الفرق بين الإنسان الأول وإنسان آخر الزمان، هو التفكير الجمعيّ المستند إلى ترندات وسائل التواصل الاجتماعيّ في أيامنا هذه عن عدد الكتب التي قرئت، وعدد الأفلام التي حُمّلت، وقائمةٍ أخرى لا تنتهي من المحصّلات. أو… لعلّهم يقومون بذلك في مطلع العام الميلاديّ لا الهجريّ؟ تلك فرصةٌ إذًا، لنبيّن بأنّ التريّث مع النفس، ومراجعتها لا يحتاج إلى فاصلٍ محوريّ يتبعه جميع الناس، مثلما لا يحتاج إلى استعراض.

البداية الجديدة ممكنة متى ما قرّرتَ ذلك، سواء في مطلع العام الميلاديّ، أو في شهر رمضان، أو في العام الهجريّ أو ربما في عيد الاستقلال. وعودةً إلى ما قلنا في بداية المقال، عن وجوب اعتبار الإنسان بما يحدث حوله، فمجموع هذه الأحداث لا بدّ وأن تصنع تاريخًا بمختلف أنواعه، سواء كان هذا التاريخ متعلّقًا بذاكرة الفرد، أو ذاكرة أمة بأكملها. الهدف هنا ألّا نكرّر المآسي، هكذا يقول جورج سانتيانا: “من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه تكرار مآسيه”.  

ننطلق من الهجرة إذًا، وممّا يمكن أن تعنيه هذه الهجرة في قاموس الدروس والعبر. صحيح أنَّ ألفا وأربعمئة وثلاثة وأربعون من السنين مرت على الهجرة الأولى، على الثورة الأولى، لكنّها العدد ذاته من الفرص التي يمكن للإنسان أن يستغلها كلّ عام ليباشر هجرته الخاصة. ولأنّ قسم المدونات مبنيّ أساسًا على سرد تجربةٍ شخصية قد تشكل قيمةً مضافةً للقارئ، فلربما تكون بعض هذه النقاط المستوحاة من مسيرة الهجرة ومن حصيلة العام مفيدةً فعلًا.

يا أخي: مُلتفتٌ لا يصل!

هذا ما قاله العارفون في مدارج السالكين، قالوا: ملتفت لا يصل، ومشكك لا يفلح. وهو الدرس الأول المستفاد من الهجرة، وهو أبرز ما تعلمتُه في هذا العام. خرج رسول الله مع صاحبه والوجهة واحدة: المدينة المنورة. وفي لحظةٍ ما، وحينما اشتدّت الظروف على كليهما، شكّ صاحبه، وراوده شيء من الخوف أن يُمنعوا من مواصلة المسير. ولكن رسول الله وبكلّ ثقة أبعد الشكّ عنه.

ذاك لأنّ الطريق إلى أي وجهة في نهاية المطاف طويلة، محفوفة بالمخاطر، قد يمتدّ ظلامها أكثر ممّا يمتد نورها، فما الذي يدفعنا إلى المضيّ قدمًا؟  هي تلك النقطة التي نثبت بصرنا عليها، لا يهمنا إن كان ثمن الوصول إليها باهضًا، لا تجذبنا المغريات، ولا تجعلنا أشواك الطريق نغضّ البصر عن الغاية. هو أيضًا ذلك اليقين الذي يبقي كلّ واحد منّا على قيد الحياة مهما واجهته الصعوبات، لأنّه يعلم في النهاية بأنّ لوجوده غاية ما، تلك الغاية التي يؤدي وضوحها إلى شيء من الاطمئنان كما يقول غوته.

آسفة إن ظنّ أي أحد منكم بأنه درس تنمية بشرية؛ إذ لا علاقة للأمرِ ببيع الأمل، وإخراج الأسد الذي بالداخل، وتعزيز الثقة بالنفس. نحن نتحدّث عمّا يمكن أن تسببه الملهيات – distractions للمرء، من فتور: وسائل التواصل الاجتماعيّ، والقصص الكثيرة عن طلاق فلان، وزواج فلانة، المقارنات، والأحكام المسبقة، والأعراف الاجتماعية البالية، الفروقات الطبقية، والنزاعات الطائفية، والالتزامات التي لا طائل منها. والملتفت إلى كل هذا لن يصل أبدًا إلى وجهته، سيبقى معلقًا في المكان ذاته، تمرّ عليه سنين طوال وهو على الحالة نفسها: لا تطور لا على الصعيد الشخصيّ، ولا الفكريّ، ولا الاجتماعي ولا أي صعيد آخر.

الهجرة، خُطوةٌ من نوع آخر

كانت الهجرة الأولى خطوة نحو تغيير لا يزال يؤتي ثماره إلى يومنا هذا. لكن، ماذا لو لم يهاجر رسول الله وبقي في مكة؟ هل كان سيتغير شيء؟ من اللامعقول أن ننتظر حلولًا عجيبة تهبط علينا من السّماء لتحلّ مشاكلنا دون سعي أو جهد. هذه حقيقة علمية؛ تذكرون قانون نيوتن الأول للديناميكا؟ إنّها أول محاضرةٍ درسناها في قسم الفيزياء: “الجسم الساكن يبقى ساكنًا، والجسم المتحرك يبقى متحركًا ما لم تؤثر فيه قوى خارجية”.

الهجرة هنا تمثّل وسيلة كلّ واحد منا للتغيير، على اختلافها. هي أيضًا الوسيلة الخارجة عن النطاق المعهود، يرى أينشتاين بأنّنا لا نستطيع أن نحلّ المشاكلَ المستعصية بنفس الطريقةِ التي أوجدتها. على المرء أن يخرج من منطقة راحته، ويرى الامور من زاوية منفرجة، زاوية أوسع قليلًا، كي تساعده على الحكم على الأشياء والمواقف بطريقة سليمة. من جديد، فيزياء نيوتن وكبلر تؤكد لنا على أنّ نفس الأسباب، تؤدي حتمًا إلى نفس النتائج. الحلّ كما قلنا، خطوةٌ أخرى مغايرة، وهجرةٌ من نوع آخر.

أن تهجر السّفاسف

هاجر رسول الله نحو المدينة، لكنّه هاجر أيضًا نحو القيم العليا. لقد ترك الأمانات عند ابن عمّه ليردّها إلى أهلها، رغم كلّ المنكر الذي فعله أصحابها به وبمن تبعه. لم يقل: سيكون ذلك انتقامًا منهم على صنيعهم معي. لا أبدًا، لا يمكن لهذا التفكير أن ينبع من نفوس العظماء. من هذا المنطلق، كانت الهجرةُ ابتعادًا عن الهمم الدنيئة، والسّفاسف بكلّ أنواعها.

الأمر للأمانة صعبٌ جدًّا، ففي الانتصار للنفس غاية، وفي الكذب أحيانًا حمايةٌ لها، وفي أذية الآخرين شيء من الإشباع لحاجات داخلية. لذلك كان يقول أسلافنا: “الشرّ هو السّاهل”، مغريةٌ تلك الحرية المطلقة التي لا تمنعنا من التحكم في أيّ جانب منّا، كما أنّ إسكات الضمير وخلق المبررّات الواهية له سهلٌ جدًّا -لمن أراد ذلك-، وأذكر هنا قول جمال الدّين الأفغانيّ: “التسفّل أيسر من الترفّع” يريد بذلك أنّ انحناء المرء أهون عليه من التسلّق؛ فلطالما كان سلوك المنحدر أكثر سهولةً وسرعةً من سلوك المرتفعات.

ولأنّ الهجرة بكلّ تفاصيلها تمثّل نوعًا من الهمة العالية، وتحتاج لجهد وصبر شديدين، كان هجرُ السّفاسف بدوره جزءً من هذه الرّحلة.

النّعم لا تدوم

في كتاب الهشاشة النفسية لصاحبه إسماعيل عرفة، ذكر هذا الأخير مختلف الأسباب التي جعلت من هذا الجيل هشًّا نفسيًّا، وجعلته يضخّم كلّ مشكلة تحدث معه ويعتبرها بأنّها نهاية العالم بالنسبة له. ومن بين الأشياء التي لفتتني أثناء تحليله، لقب رقائق الثلج الذي أطلقه على هؤلاء كنايةً عن ضعفهم الشديد وتأثرهم بكلّ ما يجري حولهم.

ذكّرني الأمر كذلك بحديثٍ نبويّ: “اخشوشنوا، فإنّ النعم لا تدوم”. هو درسٌ آخر مستوحى من الهجرة: هؤلاء الذين هاجروا وتركوا وطنهم، ومنازلهم، وأحبتهم بعد أمن وراحة ومكانة مرموقة في المجتمع، كانوا يعلمون بأنّهم لن يقبلوا على فندق خمس نجوم بمفهومنا الحديث مثلًا، مع أكل لذيذ وفراش وثير، منذ اللحظة الأولى بعد هجرتهم. لقد تطلّب الأمر صلابةً وصبرًا شديدين؛ حتى إنّ رسول الله (عليه الصلاة والسلام) قال وهو مغادرًا: “ما أطيبك من بلدٍ وأحبّك إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ”.

فالعقلية التي تجعل المرء يظنّ بأنّ ظروف الحياة وأحوالها رياضيات دقيقة: 1+1 = 2، وبأنّ كلّ ما يحيط به من رفاهية أو راحة سيدوم حتمًا هي خاطئة بكلّ الموازين، وبكلّ ما تثبته تجارب الحياة اليومية: الحروب بعد أمن، والحرائق بعد سلم، والفقر بعد غنى، والصحة بعد مرض، وغيرها من ظروفٍ لا بدّ وأن يواجهها كلّ أحد منا بدرجات متفاوتة، ولا بدّ بأن يتحلى مع ذلك بشيء من الخشونة والصّمود إن كان يودّ فعلًا أن يكمل حياته.

لقد كانت الهجرة قبل أعوام طويلةٍ من الآن، ولكنها لا تزال مستمرّةً كلّ عامٍ في تجلياتٍ كثيرة من حياة المرء. لكلّ منا حكاية، وهذه الحكاية لن تكتمل إلّا بفعل الهجرة.

كلّ عامٍ وأنتم طيّبون مُطيّبون، آمنون مُؤمّنون.