فادي عمروش
فادي عمروش

د

إدخال فسحة العشوائية في الحياة المهنية

تقوم معظم الأعمال والمشاريع والمبادرات المجتمعية بل وأي عمل ننجزه على فكرة التخطيط المسبق والمحكم الذي نحاول من خلاله توقّع جميع السيناريوهات والنتائج المستقبلية والعمل بناء على هذه التوقّعات. أضحت هذه الطريقة من المسلّمات المعمول بها دون طرح جاد لأي عقليات عمل أخرى أو محاولة حقيقية للتفكير في مدى نجاح طريقة التخطيط الدقيق، مما يدفعنا للوقوف على سؤالٍ هامٍ يطرح نفسه في هذا المقام

هل تجدي التوقعات نفعاً في عالمنا المتغيّر؟

نجد الإجابة في جعبة نسيم طالب الذي يشير في كتابه “البجعة السوداء” إلى تأثير الأحداث غير المتوقّعة والتي يصعب التنبؤ بها على مسار حياتنا وأعمالنا، تلك الأحداث أو البجعات السوداء تدفعنا اليوم للتفكير خارج الصندوق، ولإعادة النظر في مسلّماتنا العقلية واستبدال ما لا يتناسب منها مع الواقع الحالي بأخرى أكثر ملاءمة ومرونة، ومن أهم الأفكار الجديدة التي يمكن الاعتماد عليها في أعمالنا ومبادراتنا المختلفة هي فكرة توظيف العشوائية في الحوكمة وترك مساحة للاحتمالات فيما يتعلّق بعملية اتخاذ القرارات.

لتوضيح الفكرة ومفهوم العشوائية بشكل أكبر لابدّ لنا من توصيف واقعنا أولاً، إذ تأخذ مجتمعاتنا بمختلف مؤسساتها وكياناتها طابعاً مركزيّاً في إدارة أي نشاط واتخاذ أي قرار، بمعنى أنّه لابدّ من وجود سلطة مركزيّة يكون لها حق التصرّف والسير في اتّجاه معيّن.

 وعلى الرغم من بعض مزايا هذا النمط في الحوكمة، إلا أنّ نتائجه السلبية باتت واضحة في ظل التغيرات المتسارعة التي يتّسم بها عالمنا اليوم، وحتى لو كانت هناك بعض الأساليب لإشراك الآخرين في اتخاذ القرار كالتصويت والانتخابات، إلّا أنّها لا تغيّر من سيطرة السلطة المركزيّة شيئاً، لأنّ أي تجمّع من الشكل الذي نعرفه يتبع لمبدأ باريتو في قراراته، والذي يقوم على أنّ 80% من النتائج تأتي من 20% من الأسباب، ويمكن اسقاط هذا المبدأ على أي تجمّع أو كيان حولنا، ما يعني أنّ 20% من الأفراد يتحكّمون ب80% من المجتمع، مما يشير حتماً لتحكّم أقليّة سلطوية أو نخبوية في مصير الأكثرية، وبالتأكيد لن تكون لذلك نتائج محمودة دوماً!

بدأت الأصوات تتعالى في سبيل استبدال المركزية الشديدة في الحوكمة والتخلص من سيطرة الأقليّة المتمثّلة ب20% بأفضل الأحوال، يُعد “دانيال لاريمر” واحداً من السّبّاقين في هذا المضمار، إذ دعا في كتابه “نحو كائنات متساوية، الفن الخفيّ للديمقراطية الحقيقية” إلى استبدال التجمّعات المركزية بأخرى لامركزية تتيح للجميع التأثير في اتخاذ القرار وتعطي فسحة للاحتمالات في التأثير على النتائج.

مشكلة التجمّعات المركزية

 يوضح داني بأنّ التجمعات المركزية تحتوي على مجموعة من المشاكل، أهمها سيطرة الأقليات المتحكمة في اتخاذ القرارات، كما أنّ مكوّنات التجمّع ليست على توافق مع مبادئه بالضرورة، إذ تفرض بعض الاعتبارات على الأفراد التواجد ضمن تجمّعات معيّنة لأسباب اجتماعية أو ثقافية أو دينية، ما يعني أنّهم غير راغبين بمبادئ التجمّع الذي ينتمون إليه. كما يعني استغلال وجودهم للتأثير في عمليّات التصويت لصالح حزب أو توجّه معيّن من خلال الأساليب البعيدة عن الشفافية والموضوعية كالحملات الانتخابية والإعلامية التي تؤثّر في الرأي العام، وتدعم أحد الأطراف للحصول على نسبة 51% وبالتالي القدرة على اتخاذ القرار عن المجتمع بكامله رغم عدم تمثيله في الحقيقة.

يرى لاريمر أنّ بناء التجمّعات يجب أن يبدأ بالفكرة أو الهدف، ثمّ دعوة الأفراد الذين يتبنّون هذا الهدف للتجمّع حوله، ويشترط في ذلك أن يكون الانضمام مبنيّاً على رغبة الأفراد وقناعتهم، وقدرتهم كذلك على الانفصال أو المغادرة متى شاؤوا، ولإنجاز ذلك يعتقد حاجتنا لفكرتين أساسيّتين، الوصول إلى الإجماع وتوظيف العشوائية لمنع التحزّب.

أما ما يخصّ الإجماع فإنه يناقش فكرة أنّ الإجماع الذي يخضع لتأثير باريتو ليس بالإجماع المقبول، لذا فإنّ ذلك يستلزم العمل على منهجيّة جديدة تؤدّي إلى إجماع مقبول حول أيّ فكرة بعيداً عن سيطرة أقليّة أو جهة مركزيّة ما، ودون الخوض كثيراً في قضية الإجماع فإنّ ما يهمنا هو توظيف العشوائية في الحوكمة، ويعني بذلك إفساح المجال للمهمّشين أو غير الفاعلين في المبادرة وإشراكهم في اتخاذ القرارات، الأمر الذي قد تكون له آثار ونتائج غير متوقّعة ومذهلة أيضاً على التّجمّع ككل، بخلاف الطرق التقليدية القائمة على التخطيط المركزي في كلّ شيء.

توظيف العشوائية في قطّاع الأعمال

لعلّ قطاع الأعمال هو أوّل المبادرين لتوظيف العشوائية للمساهمة في التطوير وخلق الإبداع، ومن أبرز الأمثلة ما تفعله شركة غوغل من إتاحة الفرصة أمام موظّفيها للعمل على شيء يحبّونه خلال 20% من وقت العمل، وفي حال تمكّن أحد الموظّفين من الوصول لفكرة يعتقد أنّها ستؤدّي لنتائج جيّدة، فإنّ الشركة تقوم بدعم هذا الموظّف وتمويله بما يلزمه لتنفيذ فكرته، وبالتأكيد يمكن لفكرة عشوائية من هذه الأفكار أن تنجح وتعطي نتائج مذهلة، وهذا بالضبط ما حصل؛ إذ كانت خدمة البريد الإلكتروني من غوغل “Gmail” إحدى نتائج هذه العشوائية، لذلك فإنّ تبنّي العشوائية وتحييد التخطيط بعض الشيء يؤدّي لنتائج ناجحة وغير متوقّعة في كثير من الأحيان، ولهذا نجد أنّ المستثمرين الذين يقومون بتبنّي وتمويل مجموعة من الشّركات الناشئة –على أمل أن تنجح واحدة منها فقط- تكون النتائج لديهم أفضل بكثير من أولئك الذين يركّزون كل تمويلهم على مشروع واحد مخطّط له بدقّة، كما أنّ نسبة المخاطرة أقلّ في النموذج الأول بكل تأكيد، كما أنّ هذا الأسلوب يحفّز المنافسة والإبداع في كل مجموعة أو شركة في محاولة إثبات جدارتها وأنّها الأفضل والأقدر على تحقيق الأرباح.

يمكن استعراض بعض النماذج وقصص النجاح من واقعنا والتي كان للعشوائية دور محوري في الوصول لها، واحدة من هذه النتائج ما تقوم به مبادرة شبّاك سوري والتي تسعى لتسليط الضوء على قصص وطموحات واحتياجات الناس في المجتمع، ومن تلك القصص التي تمّ تسليط الضوء عليها قصة العم سمير سائق التاكسي في العاصمة السورية دمشق، إذ قام أحد الأعضاء في شباك سوري بركوب تاكسي العم سمير ليتفاجأ أنّه يستمع لموسيقى بينك فلويد وهي فرقة روك تشكلت في لندن عام 1965. تميزت الفرقة، باعتبارها تتبع نمط السايكيديلك روك. ورغم سنّه الكبير، وعندما سأله عن سبب اهتمامه بهذا النوع من الموسيقى، أوضح أنّه كان يعزف على الغيتار وكان يطمح للظهور على المسرح وعزف الأغاني التي يؤلّفها بنفسه، وبناء على ذلك قام الفريق بتصوير العم سمير وسرد قصّته بفيديو بسيط على السوشال ميديا، فشاهده بالصّدفة مدير أحد المعاهد الموسيقية وتواصل مع فريق شباك سوري لمساعدة العم سمير، وتمّ ذلك بالفعل من خلال التعاون مع مدير دار الأوبرا لتنظيم عرض موسيقي لأول مرة للعم سمير، ما فتح له مزيداً من الأبواب والفرص وأصبح اليوم يؤلّف الأغاني ولديه قناة على اليوتيوب، وكل ذلك حصل بطريقة عشوائية غير مخطّط لها!

وبطريقة مشابهة أيضاً تمّ تسليط الضوء على “أم أحمد” التي تقوم ببيع الكبة في حارات دمشق القديمة، وتمّ تصوير فيديو قصير لها تتحدّث فيه عن قصّة مشروعها، وحقّق هذا الفيديو ما يصل لمليون ونصف مشاهدة، ما أكسبها شهرة كبيرة عند كثير من النّاس.

ختاماً

لم يعد هنالك شكّ حول أهمية الدور الذي يلعبه الحظُّ والعشوائية في تسيير شؤون حياتنا حتَّى أدقّ تفاصيلها، فلا مكان بعد الآن للأعذار لجهلنا بل من الآن فصاعداً علينا أن نوسع مداركنا، وأن نفكر بطريقةٍ شموليَّةٍ توظّف جميع الاحتمالات المتوقعة وغير المتوقعة؛ لنكون نحن ربان السفينة المتأهب لإدارة الدفَّة بأفضل طريقة ممكنة.