الفنان والأديب أوسكار كوكوشكا والمولود في الأول من مارس عام ١٨٨٦ في مدينة بوشلارن الواقعة على نهر الدانوب في النمسا. انتقلت عائلته إلى فيينا عام ١٨٨٧م، وابتدأ خطواته الأولى في عالم الفن بالبدء في تعلم تقنيات العمل بالألوان الزيتية وكانت أولى أعماله هي لوحة “فتاة عارية” والتي يعود تاريخها إلى عام ١٩٠٥- ١٩٠٦م، أي أنه كان في حدود التاسعة عشر من العمر.
وكان في هذا الوقت يدرس في مدرسة الفن والحِرَف للمتحف الامبراطوري الملكي النمساوي والمعروفة اليوم باسم جامعة الفنون التطبيقية في فيينا. وخلال العامين الأولين من دراسته بين عامي ١٩٠٤ – ١٩٠٦م التحق بقسم معلمي المدارس الثانوية والذي كان يترأسه أنتون ريتر كينر ولكنه قرر الانسحاب وعدم العمل كمدرس، والتحق بقسم الرسم والصباغة، والذي يترأسه كارل أوتو زيتشكا والذي تلقى دعماً ماليا من ورشة فيينا لدعم طلابه وكان منهم كوكوشكا وهناك عقد كوكوشكا صداقة متينة مع رودولف كالفاش، فعمل الإثنان على تصميم مطبوعات احتفت بها ورشة فيينا وطبعت ستة عشر تصميم من أصل اثنين وعشرين. وخلال عامي ١٩٠٧-١٩٠٨ ظهرت موهبته الأدبية وكتب حكايات خيالية عنونها بعنوان الأولاد الحالمون (Dreaming Boys). وكانت أعمال كوكوشكا الفنية خلال هذه الفترة تتميز بإظهارها للشخصيات وكأنهم دُمى مع إظهار شيء من الهشاشة كرسمته “فتاه شبه عارية” ويظهر انحناء جذعها، ملامحها، وتقسيمات جسدها التشريحية شيء من التشظي الانكسار.
وعلى نفس هذا النمط وزاوية الرؤية التي يرسم من خلالها صمم الملصق الخاص بالمتحف الفني الذي أقامته مجموعة غوستاف كليمت عام ١٩٠٨ والذي كان عرضاً رائعا للفنون والحرف اليدوية، وبعد هذا النجاح بعام نظمت مجموعة غوستاف كليمت معرضاً فنياً آخر اهتم بأعمال أوروبا الغربية والأعمال الفرنسية ولكن في هذا المعرض واجهت أعمال كوكوشكا انتقادات واسعة لتحديها القواعد الأكاديمية ولغرابتها التي لم يتقبلها المجتمع الفني آنذاك وكان أحد هذه الأعمال هو تصميمه لملصق يروج لأحد أعماله الدرامية مسرحية “قاتل، أمل المرأة” وعرضت هذه المسرحية في عام ١٩٠٩ وكانت بداية ظهور تمرد هذا الفنان في جميع أعماله الأدبية والفنية على القواعد السائدة في الفن في تلك الأيام.
بعد هذا العمل تم طرده من مدرسة الفنون والحرف، ولكنه وجد داعماً قويا له وهو المعماري والمدافع عن الفن الحديث أدولف لوس، وبفضل هذا الدعم بدأ في تكوين حلقة من الفنانين والأدباء المؤيدين لهذا الاتجاه الحديث في الفن. ومن خلال أدولف لوس كون علاقة مع الناشر هيرفارث فالدن وظل بذلك فترة في برلين فدعاه في ذلك الوقت بول كاسيرار مالك أحد المعارض بأن يقيم له معرضا فنيا خاصاً. وكان كوكوشكا يعمل على تصميم الملصقات المعلنة لمعارضه وأعماله الأدبية والمحاضرات وكانت تصاميم يستفز بها النقاد ومن أشهر هذه الإعلانات هو إعلانه لأحد المحاضرات التي ألقاها في المنظمة الأكاديمية للأدب والموسيقى عام ١٩١١-١٩١٢ م وكان يظهر من خلالها يضع اصبعه على جرح مفتوح على صدره معبراً بذلك عن عتابه لأهالي مدينة فيينا لنقد فنه وما سببه ذلك من جرح في صدره.
سرعان ما أصبح كوكوشكا الشاب الواثق من نفسه معروفًا في الأوساط الاجتماعية وجذب انتباه ألما مالر، الأرملة الشابة للموسيقي الشهير غوستاف مالر. نمت بين الاثنين علاقة حب استمرت من عام ١٩١٢ حتى عام ١٩١٥، وظهرت الآثار النفسية لهذه العلاقة على أعماله التي أنتجها خلال تلك الفترة كأعماله التي يظهر فيها المناظر الطبيعية للأماكن التي يزورها مع ألما والتي نرى فيها جاذبية وهدوء تعكس نظارة ذلك الحب.
انضم كوكوشكا للخدمة في الجيش عام ١٩١٥م مع الجيش النمساوي المجري، كردة فعل للإحباط الذي أصابه بعد انتهاء علاقته بألما، وتعرض لإصابات تهدد حياته بالفعل في أغسطس ١٩١٥م. وبعد نقاهته، تم تجنيده مرة أخرى في الجيش في يونيو ١٩١٦م، حيث قام بواجباته كضابط تفتيش بالإضافة لأعماله في المكتب الصحفي. في يوليو تطوع مرة أخرى للخدمة في الخطوط الأمامية وتم استدعاؤه كضابط ارتباط لجبهة إيسونزو، حيث عمل لاحقًا كرسام حرب. بينما نجا كوكوشكا من انفجار دون أن يصاب بأذى في يوليو ١٩١٦م، أصابه انفجار آخر في أواخر أغسطس وأدخله ذلك في صدمة. ونُقل إلى مستشفى عسكري في فيينا، وفي سبتمبر طلب نقله إلى برلين في إجازة مرضية. في ديسمبر ١٩١٦ تمت معالجته في مصحة الدكتور تيوشر في درسدن- أوبيرلوشويتز. وهناك انضم إلى مجموعة من الكتاب والمثقفين فعبر عن ذكرياته من خلال لوحة Lovers with Cat عام ١٩١٧. وخلال هذه الفترة في دريسدن وبعد صدمة الإصابه هيمن عليه القلق والصراع النفسي الداخلي جراء كل ما تعرض له وتعد لوحته الذاتية والتي يلمس فيها وجهه بيد واحدة عبارة عن لوحة تلخص كل ما يشعر به ويفكر فيه من ذهول حيث تعبر عن الحزن، الاضطراب والخوف.
تحولت إقامته في دريسدن ، التي تم التخطيط لها لتكون إقامة مؤقتة ، إلى إقامة دائمة. أراد كوكوشكا التدريس في أكاديمية دريسدن للفنون الجميلة، وفي عام ١٩١٩م كان له ذلك وتم تعيينه بالفعل رئيسًا لفصل الرسم في أكاديمية دريسدن. وعلى مدار السنوات التالية، طور كوكوشكا أسلوبًا مختلفاً عن أعماله السابقة، فاستخدم ألوان أكثر جرأة، ألوان ملفتة للنظر موضوعة بجانب بعضها البعض بطريقة واسعة ومستوية، تشبه السجاد تقريبًا. ويظهر اهتمامه بالعمل بالألوان المائية وهو الذي نشأ على الألوان الزيتية وتضح عمله بالألوان المائية في عمله لوحة الفتاة الجالسة عام ١٩٢١م.
في عام ١٩٢٥ استقال من منصبه في الأكاديمية وشرع في رحلات مكثفة في جميع أنحاء أوروبا. بعد الإقامة في باريس، والتي استمرت من مارس ١٩٣٢ إلى مايو ١٩٣٣، عاد كوكوشكا إلى فيينا. في عام ١٩٣٣، رسم لوحة The Lace Maker، وتعطي هذه اللوحة مؤشرًا جيدًا على النمط العصبي الذي تم تشكيله بطريقة ديناميكية لتصبح ميزة للأعمال اللاحقة لكوكوشكا.
في عام ١٩٣٠ انتقل إلى براغ واستقر بها وكانت هي المدينة التي قابل فيها أولدا والتي أصبحت زوجته. وفي خريف ١٩٣٨م انتقل إلى إنجلترا وعاش فيها فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها إلى أن انتقل إلى سويسرا التي توفي فيها عام ١٩٨٠م عن عمر يناهز الرابعة والتسعين.
يتضح لنا من خلال سيرة هذا الأديب والفنان، مدى التغيرات المؤثرة في حياته والتي انعكست على أعماله وابداعاته فمنذ البداية الجامحة والتمرد على القوانين الأكاديمية في الفن وبالرغم من الانتقادات اللاذعة لفنه إلا أنه لم يتأثر بذلك واستمر على نهجه وأثبت أنه قادر على أن يخلق المسار الفني الخاص به، فلم يحاول أن يغير أو أن يجامل على حساب كسب رضى النقاد أو الجمهور. وهذا ما يجب أن يقوم به الفنان الواثق بابداعه المؤمن بقدراته. ثم ظهرت ملامح عذوبة الحب في رسمه للمناظر الطبيعية في الفترة التي كان فيها على علاقة مع ألما مالر، وبعد انتهاء هذه العلاقة والتحاقه بالجيش ظهرت الخطوط العصبية في تقنية الرسم والتلوين لديه والتي تشي بحالته الذهنية والنفسية آنذاك. وهكذا نرى كيف أن تتبع نتاج الفنان قد يظهر شيء من سيرته وحالته النفسية والذهنية، فكما يكتب الأديب سيرته الذاتية فهكذا الفنان التشكيلي؛ يجسد بريشته سيرته، وانفعالاته مع ظروف الحياة وتغيراتها، لذلك كان الفن دوماً مرآة الحياة.