إمبراطورية م يتمرد على الإمبراطور.. إحسان عبد القدوس وفخ المقارنات الجدلي!

"عندما يكون الأب رئيساً..هل يظلم أبناءه أم يظلمه أبناؤه؟" 

-إحسان عبد القدوس/ العذراء والشعر الأبيض

إنه إحسان عبد القدوس الأديب الكبير والمفكر المشاغب واحد من أوائل الروائيين العرب، الذين تناولوا موضوعات محرمة غير المطروقة، ذلك الزمن في قصصهم ورواياتهم.

يعتبر إحسان عبد القدوس روائياً من نوع خاص، فقد شكل بأدبه نقلة نوعية في عالم الرواية العربية، ويعتبر من أبرز أسباب تطورها كما أصبح أسلوبه الروائي مدرسة أدبية يسعى إليها طلاب العلم.

لم يكن "عبد القدوس" روائياً مصرياً فحسب فشهرته وأدبه تجاوزا حدود مصر إلى العالمية، وترجمت معظم رواياته إلى لغات أجنبية متعددة لا عجب في موهبته الجبارة فهو ابن السيدة روز اليوسف مؤسسة مجلة روز اليوسف العريقة.

كان "إحسان" روائياً جريئاً لا يخاف ولا يهادن، كتب عن الحب المحرم والمجتمع والفساد السياسي والصراع الطبقي دون أن يكترث بالغضب الشعبي، فإحسان كتب عن المجتمع كما رآه لا كما ينبغي أن يراه.

كما أنه كان عاملاً أساسياً في تطور السينما المصرية التي اغتنت بأعماله الروائية والتي تحولت بدورها إلى أفلام شهيرة أصبحت أيقونات سينمائية.

رغم رحيله منذ أعوام طويلة إلا أن إحسان عبد القدوس لا زال حاضراً بيننا بروحه الثائرة وأدبه الذي لا ولن ينسى، وفي هذا العام عاد اسم إحسان عبد القدوس بقوة عن طريق مسلسل إمبراطورية م الذي أعاد تقديم الرائعة الأدبية بعد أعوام طويلة من تجسيدها في الفيلم الشهير.

لكن العمل نال انتقادات واتهامات لا نهاية لها منذ عرضه وتعرض لمقارنات كثيرة مع النسخة السينمائية التي كانت من بطولة سيدة الشاشة فاتن حمامة في السبعينات حتى أن كاتب المسلسل رد بنفسه في منشور طويل على صفحته الخاصة في موقع "فيسبوك" بعدما تزايدت الاتهامات.

نرشح لك: ما الفرق بين فيلم ودراما إمبراطورية ميم في رمضان 2024؟.. مؤلف المسلسل يجيب

في الواقع لم يكن إمبراطورية م أول عمل رمضاني يقتبس رائعة أدبية من روائع إحسان عبد القدوس وسنتطرق لهذا العمل المعاصر الذي يحافظ على روح مؤلفه الراحل ضمن مقالنا اليوم في "أراجيك فن".

" لم تكن تعرف ما هو الحب، وأنه أسمى من الجسد..أنه الروح..أنه الحنان.. أنه الفكرة..أنه المعنى..أنه الإنسانية..لم تكن تعرف أو تفهم شيئاً من هذا!" 

-النظارة السوداء 

في أجواء من الدراما العائلية والكوميديا تدور أحداث المسلسل حول مختار أبو المجد صاحب شركة السياحة الأرمل الوسيم والأب المرهق لستة أولاد متبايني الأعمار والشخصيات.

يعيش مختار مع أطفاله الستة في منزل كبير في المعادي مع أخته الظريفة مديحة التي تساعده مع أولاده، يمتلك مختار طموحاً غريباً من نوعه فهو يهدف لتحويل عائلته إلى إمبراطورية يحمل كل فرد من أفرادها اسماً يبدأ بحرف الميم.

لقد رسم مختار درب الأولاد منذ طفولتهم وقرر مستقبلهم كما يراه هو مناسباً وملائماً لكن القدر غافله وسلب منه زوجته المحبة ميسون بعد صراع مع المرض، استعرض العمل عَبر حلقاته الصراع الأبدي الذي يبدو بلا نهاية بين مختار وأولاده الذين ضاقوا ذرعاً بتحكم أبيهم فقرروا التمرد عليه وإجراء انتخابات لاختيار مسؤول آخر سواه عن البيت.

لم يكن مختار أباً سيئاً على الإطلاق إنه أب حنون طيب متفهم قدم كل ما بوسعه لأولاده من تعليم وهوايات وتفهم لكنه ومن فرط محبته وحرصه على أطفاله يحصرهم في نطاقه الخاص دون أن يسمح لهم بتحقيق ذواتهم والخوض في الحياة بأنفسهم.

فنراه يمنع ابنته الكبرى منى المحامية من الذهاب في بعثة إلى خارج البلاد بمفردها قبل أن تتزوج، كما أنه لا يسمح لابنه الأكبر مروان بالخروج كما يرغب ويحدد له وقت العودة إلى المنزل رغم أنه شاب بالغ يدرس في الجامعة.

لقد ركز العمل وبقوة على تلك الفجوة التي لا بد أن تنشأ بين الأهل والأولاد فالزمن يتغير بسرعة، لا نكاد نستوعبها وبعض الأهل يبقون مصرين على حصر أبنائهم ضمن حدود زمنهم دون إدراك واقعية تغير الزمن الأمر الذي يخلق نزاعاً وصراعاً فيما بينهم بالقطع وهو ما تفنن المسلسل في عرضه بأحداث نجحت في مزج الدفء العائلي اللطيف بالكوميديا مع جرعة لا بأس بها من الدراما.

أيضاً بطريقة جعلت الأحداث تتوالى بسرعة مقبولة وجاذبية تجعلك تنتظر بلهفة ما الذي سيحدث الآن مع مختار المصر على أن أولاده هم مسؤوليته الخاصة طالما أنهم تحت سقف بيته والأولاد المصرين بقيادة مروان على أن حياتهم هي ملك لهم ولا ينبغي لأي كان حتى والدهم أن يتحكم بها.

كان بالإمكان أن تتخذ القصة منحى درامياً قاسياً لكن طريقة تقديمها والأجواء المفعمة بالمرح والحب جعلتها أكثر حيوية وبساطة وأقرب لكل فئات المجتمع، إن مسلسل إمبراطورية م هو عمل عائلي بامتياز عمل عن العائلة موجه لكل عائلة الأمر الذي منحه شعبية من نوع خاص في الموسم الرمضاني المختلف بقوة هذا العام وعمل يحمل في طياته قبساً من روح الأديب الكبير الساخرة المتمردة.

نرشح لك: مسلسل إمبراطورية ميم يجمع الدفء العائلي والكوميديا.. هل يستحق المشاهدة؟

عادة ما تعمد المسلسلات الدرامية إلى ضم مجموعة من نخبة ممثلي الشاشة الصغيرة والكبيرة لتقديم زخم ودعم شعبي للعمل لكن مسلسل إمبراطورية م ضم في طاقمه التمثيلي مجموعة مميزة من الوجوه الجديدة التي أثبتت موهبة أصيلة.

إضافة إلى مجموعة أخرى من أفضل وأقوى الممثلين مما خلق توازناً من نوع خاص في أحداث المسلسل، جسد خالد النبوي دور مختار أبو المجد بطريقة تليق بممثل مثله فكان الأب الطيب المرهق من المسؤوليات الكثيرة والطامح إلى دفع أبنائه للسير في الطريق الذي رسمه لهم منذ ولادتهم.

كان خالد عفوياً جذاباً كعادته كما أنه جدد تعاونه مع نجله نور للمرة الثانية بعد مسلسل راجعين يا هوا لكن في هذه المرة كأب وابن، في الواقع، ورغم الاعتراضات والانتقادات إلا أن ثنائية خالد ونور مميزة للغاية، إذ أن هناك كيمياء من نوع خاص بينهما تجعل لمشاهدهما متعة من نوع مميز.

يجسد نور دور مروان رئيس جبهة المعارضة ضد مختار بأداء راق لطيف خال من الاصطناع أو المبالغة فكان الأخ الطيب والابن المتمرد والابن المتمرد بأداء لطيف راق يخلو تماماً من أي مبالغة، كما كان العاشق الموله بمادي الفتاة غريبة الأطوار التي جسدتها مايان السيد والتي ذكرتنا بقصة أخرى من قصص عبد القدوس قصة النظارة السوداء.

لكن مادي في المسلسل كانت فتاة ذات تعقيدات نفسية واضحة، فتاة وحيدة تحتاج لرفيق يفهمها ويقدر وضعها فتاة متوحدة لا تدرك ولا تفهم معنى العائلة، وقد استطاع الشابان خلق انسجام لطيف مع بعضهما البعض وتحولا إلى واحدة من أفضل ثنائيات هذا الموسم.

فيما جسدت هاجر السراج دور منى ابنة مختار الكبرى منى شديدة الطموح التي يعيق طموحها خوف أبيها وحرصه الدائم عليها والتي ستفعل المستحيل لتحقق طموحها هذا، أمًا إلهام صفي الدين فقد جسدت دور مايا الذكورية لاعبة كرة القدم العنيفة التي لم تحب أحداً في الحياة بقدر حبها لقطتها زكية.

لقد قدم كل فرد من طاقم العمل دوره بأفضل شكل ممكن خاصة الوجوه الجديدة التي أثبتت موهبة فطرية قوية والأطفال الرائعون الذين كانوا نجوم العمل لكن روح العمل وجوهرته الحقيقية كانت الرائعة نشوى مصطفى التي أغرمنا بها بدور العمة مديحة.

لم تكن مديحة عمة للأطفال ولا أخت مختار الحنونة فقط بل كانت الأم البديلة وملجأ كل أفراد عائلته، بحنان دافئ وأداء راق كوميدي نجحت نشوى في أن تكون نجمة العمل الأبرز ومصدر البهجة والحب والضحك فيه.

 فيما جسدت حلا شيحا دور مي جارة مختار الودود أكثر من اللازم والتي يبدو أنها ستقلب حياة مختار تماماً أما ليلى عز العرب فقد أضافت بوجودها متعة خاصة بدور المدام سناء حماة مختار التي تلومه باستمرار على موت ابنتها والتي نجحت في تشكيل ثنائية كوميدية مع محمود حافظ الذي جسد دور ابنها محمود الخاضع بشكل مستفز لسيطرتها.

لكن الثنائية الأفضل والأكثر كوميدية في الواقع كانت تلك التي نشأت بين محمود ومديحة فرومانسيتهما الخرقاء كانت من أجمل ما قدمه لنا العمل بلا أي شك رومانسية محببة غريبة قادرة على منحك شعوراً غريباً بالدفء والفكاهة في نفس اللحظة.

كما امتلك المسلسل مجموعة مميزة من النجوم الرائعين الذين كانوا إضافة محببة إلى العمل العائلي الممتع كمحمد محمود عبد العزيز الذي تفنن بدور كريم طليق مي المزعج والذي ورغم ظهوره القليل إلا أنه ترك أثراً واضحاً في العمل، كان اختيار طاقم التمثيل ممتازاً بلا أي شك متوازناً بين نجوم الصف الأول والشبان التواقين لإثبات حضورهم وموهبتهم مما خلق انسجاماً وحيوية مميزة جعلت متابعة المسلسل مغامرة عائلية نتوق لمعرفة تفاصيلها والكشف عن أسرارها.

نرشح لك: مسلسل إمبراطورية ميم واضطراب ثنائي القطب.. ما المرض الذي كشفت عنه مايان السيد لنور النبوي؟

في الواقع هناك معلومة قد لا يعرفها البعض، إن إمبراطورية م ليست رواية من روايات إحسان عبد القدوس إنما هي قصة قصيرة كتبها في الستينات لا تتعدى صفحاتها الـ 15 صفحة.

تحكي القصة عن محمد مرسي الذي لم يكن أرمل فزوجته لا تزال على قيد الحياة لكن وجودها مهمش تماماً وكان أباً لستة أبناء كلهم من الذكور، إن كل من قرأ القصة القصيرة الممتعة يدرك أنها كانت بمجملها سخرية سياسية صريحة كتبت في زمن مضطرب من تاريخ مصر وعندما قدمت إلى السينما كان الزمن قد تغير وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة أغرمت بالقصة ورغبت في تحويلها إلى فيلم من بطولتها.

لذا فقد تغيرت القصة جذرياً وتحول محمد إلى منى الأرملة وانقلبت أحداث القصة بشكل كامل لتصبح سيناريو لفيلم من عيون السينما المصرية بمعالجة سينمائية من قبل الأديب العالمي نجيب محفوظ وحوار عبد القدوس شخصياً، واليوم وبعد أعوام طويلة عادت الإمبراطورية بحلة جديدة تناسب عصرنا الحالي من كتابة المؤلف محمد سليمان عبد الملك المعروف بتقديم أعمال تلفزيونية حققت نجاحات قوية كمذكرات زوج وراجعين يا هوا.

لقد نقل عبد الملك الأحداث من الستينات إلى عصرنا الحالي واستطاع أن يحول القصة القصيرة إلى مسلسل طويل دون الإخلال بالجو العام الكوميدي للقصة نفسها، لكن وعلى عكس القصة لم يركز المسلسل على الانتخابات وحدها إذ أن التركيز انقسم بين الانتخابات وبين مختار الأرمل الذي لا يعرف كيفية التعامل مع أولاده.

كما ركزت القصة على الفجوة المتزايدة بينهم والصراع بينه وبين ابنه الأكبر مروان الذي اعتبر نفسه ممثلاً لأخوته في وجه طغيان أبيه، لكن أجمل ما في العمل كان حقيقة أنه سلط الضوء على مجموعة مهمة من القضايا الخاصة بالجيل الجديد.

نرشح لك: مسلسل الحشاشين ومعضلة الصداقة.. ثلاثية عبد الرحيم كمال التي أثارت الجدل!

فركز على أهمية تقبل الآباء لفكرة خروج الأبناء خارج حدود المنطقة الآمنة التي رسموها لهم عن طريق قصة مختار وابنته منى وسناء وابنها محمود الرجل البالغ العاجز عن المضي في حياته قدماً والزواج ممن يحب بسبب تسلط أمه.

كما نجح العمل في تسليط الضوء على الاضطرابات التي يعيشها الأطفال بسبب خسارة أحد الأبوين فنرى أولاد مختار مفتقدين بشكل كامل لأمهم الراحلة رغم وجود أبيهم ومحاولته الدائمة تعويضهم ونرى حبيبة ابنة مي التي لم تشعر يوماً بحب أبيها كريم لها.

عَبر حلقاته نجح المسلسل في التنبيه لقضايا اجتماعية مهمة كاحترام حزن وألم أولئك الذين فقدوا حيوانهم الأليف فنرى في إحدى الحلقات عائلة أبو المجد تقيم جنازة محترمة لقطة مايا زكية إذ احترم مختار مشاعر ابنته تجاه قطتها صديقتها الصدوقة ورفيقة دربها.

ووضح بأفضل طريقة أهمية احترام مشاعر الحزن والألم التي تنال ممن فقد حيوانه المحبب لكن أفضل ما وضحه العمل كان موضوعاً ما زال حساساً في مجتمعنا العربي متخفياً تحت ستار من الكتمان والأسرار، لقد سلط العمل الضوء على المعاناة الصعبة التي يعيشها أصحاب الاضطرابات النفسية.

وذلك عن طريق شخصية مادي التي اتضح أنها تعاني من اضطراب ثنائي القطب وهو اضطراب نفسي يضع المريض في حالة انقسام مستمر وتقلبات مزاجية دائمة، لم يصور العمل مادي على أنها شخص يحتاج المساعدة فقط بل نجح في توضيح أنها إضافة إلى الأدوية تحتاج إلى تفهم وتقبل المحيطين لوضعها الذي قد يكون شديد الهشاشة أحياناً، تفاصيل كثيرة استعرضها العمل ببراعة لم تخل من مواقف كوميدية خففت من قسوة الواقعية التي جسدتها الأحداث.

لقد نجح صناع مسلسل إمبراطورية م في نقل روح القصة وكوميديا فكرة الانتخابات ضمن العائلة وأضافوا إليها مساحة أكبر لاستعراض مشاكل الأبناء مع أبيهم بطريقة لم تخل من الكوميديا والمرح اللازم لعمل كهذا.

لكن نجاح العمل ترافق مع جدل حاد وانتقادات لاذعة اتهمت صناعه بالخروج عن القصة الأصلية وتشويه الفيلم الأيقوني وهو أمر متوقع لأي عمل مقتبس من رائعة أدبية وسينمائية كما تعالت الأصوات المعارضة للعمل والتي وضعته في مقارنة بينه الفيلم الرائع الذي أخرجه حسين كمال وهنا ينبغي توضيح أمر سبق لكاتب المسلسل توضيحه.

لم يكن مسلسل إمبراطورية م إعادة إنتاج للفيلم الأيقوني ولا هو تجسيد حرفي للقصة، إنما كان إعادة تصور أكثر عصرية لقصة أبدعها أديب من عمالقة الأدب العربي لقد قدم عبد الملك رؤية عصرية للعمل القصصي بطريقة حافظت على روح القصة وعمقها، مضيفاً إليها لمساته الكتابية التي جعلت منه كاتباً مميزاً ينتظر الجمهور أعماله بفارغ الصبر.

إن مقارنة العمل القصصي أو حتى السينمائي بالمسلسل ستكون مقارنة ظالمة فالشيء الوحيد المشترك بينهما هو الأسلوب القصصي المميز للروائي الكبير، أمًا المعالجة الدرامية فقد اختلفت تماماً بين العملين وهذا أمر طبيعي نجح في أن الذي يمنح كل عمل رونقه الخاص الذي يجعله عملاً متفرداً ممتعاً ومسلسل إمبراطورية م يمتلك رونقاً مميزاً بلا أي شك. 

في الواقع لم يكن إمبراطورية م أول عمل يقدم معالجة عصرية لرائعة أدبية خالدة، إذ أن موسم رمضان 2017 شهد أمراً مشابهًا بعمل نقل واحدة من أشهر روايات الروائي العظيم إلى زمننا المعاصر.

نرشح لك: هاجر السراج تكشف لـ “أراجيك” كواليس مسلسل إمبراطورية ميم مع خالد النبوي برمضان 2024

" إن الحب يداري نفسه دائماً..خلف جذع شجرة أو في الأماكن الخالية حتى لا تخدش رقته عيون الناس..إن الحب يكتفي بنفسه لا يريد شيئاً إلا أن يخلو القلبان أحدهما بالآخر..فيهرب بهما بعيداً وقد يضطر إلى الكذب ليختبئ..وربما كان هذا الكذب نوعاً من الخوف..إن الحب كالطفل الصغير يرتبك ويرتعش عندما يواجه زحام الحياة " 

لا تطفئ الشمس- الجزء الأول 

تعتبر رواية "لا تطفئ الشمس" واحدة من أشهر وأفضل روايات إحسان عبد القدوس وأكثرها قسوة وظلامية، لم تكن هذه الرواية محاكاة سياسية ساخرة بل كانت حكاية عن الحب والخسارة والموت والتمرد كانت صرخة احتجاج في وجه كل أب وأم يظنون أنهم يمتلكون الحق في السيطرة على حياة أطفالهم.

تدور أحداث الرواية في بيت مصري عادي ذي طبيعة محافظة، حيث تعيش فيه الأم الأرملة مع أبنائها باختلافاتهم وطموحاتهم التي تحررت بعد رحيل دكتاتور المنزل الأب لكن دكتاتوراً ذكورياً آخر دخل على الخط، إنه الخال عزت بك الذي بدأ يسيطر على حياة بيت أخته الأمر الذي أشعل فتيل الخلافات والتمرد بين أولاد العائلة.

كان الحزن والألم والتمرد طاغياً على أحداث الرواية المؤلفة من جزأين والتي لا تزال بعد أكثر من ستة عقود واحدة من أفضل وأجمل روايات إحسان عبد القدوس، ولا زالت قادرة على إثارة تساؤلات لا تنتهي حول عنوانها ما هي الشمس التي طلب منا عبد القدوس ألا نطفئها؟ أهي شمس الحب التي تسطع دون إرادتنا أم هي شمس الطموح والأحلام التي تنير دروبنا؟

لم يستطع الزمن إطفاء شمس رائعة إحسان عبد القدوس الأدبية والتي تحولت إلى فيلم سينمائي رائع في الستينات من إخراج صلاح أبو سيف ومن بطولة شكري سرحان فاتن حمامة وعماد حمدي.

استطاع الفيلم أن ينقل أحداث الرواية بأمانة حقيقية محافظاً على أجواء القلق والقسوة والحزن الطاغي على أحداثها القاسية خاصة عندما تخسر العائلة ابنها الأصغر ممدوح في حادث أليم، بعد نصف قرن قرر الكاتب تامر حبيب تقديم معالجة درامية عصرية للرواية الشهيرة وتحويلها إلى عمل تلفزيوني من 30 حلقة من إخراج محمد شاكر خضير بث في موسم رمضان عام 2017 حافظ العمل التلفزيوني على روح القصة الأصلية.

لكن ولأنه عمل متجدد برؤية أكثر عصرية وأكثر ملائمة لحياتنا الحالية، فقد تغيرت أسماء الشخصيات ومهنها لتلائم الزمن الذي تدور فيه كما أن العمل التلفزيوني خفف من القسوة والسلبية الطاغية على أحداث القصة، وقدمها بطريقة أكثر تفاؤلاً وإشراقاً دون المساس بروح الأصل الروائي بل بالعكس منحه طابعاً أكثر عصرية وأقرب إلى المشاهد.

لكن ومع ذلك فقد لاقى العمل انتقادات واسعة النطاق اتهمت صناعه بتشويه العمل الروائي وأخراجه عن مساره المفترض، فالتجديد الزمني كان بالنسبة لهم مسيئاً للأصل الروائي كما أن بعض المشاهدين وجدوا أن العمل احتوى على أفكار جريئة لا تلائم المجتمع المصري لا الحالي ولا السابق.

خاصة عندما كشفت الأحداث أن الرجل الذي أرغمت الابنة الصغرى آية على الزواج منه كان مثلياً، فيما استمرت علاقة زوجته آية مع عشيقها هشام أستاذ الموسيقى حتى بعد زواجها ففي الرواية لم يكن الزوج مثلياً، لكنه كان وحشاً شرساً ورجلاً معنفاً لا يجد غضاضة في تشويه وجه زوجته الصغيرة التي لم تستطع إطلاقاً تقبل زواجها منه.

كما أن العمل احتوى الكثير من الألفاظ الخارجة والمشاهد التي أثارت جدلاً لا ينتهي على وسائل التواصل الاجتماعي إضافة إلى مقارنات غير العادلة مع الأصل الروائي والنسخة السينمائية، لكن ومع كل هذه الجدلية والانتقادات فإن إنكار نجاح العمل وقدرة صناعه على تحويل رواية كتبت قبل أكثر من نصف قرن إلى عمل ملائم لعصرنا الحالي بطريقة تحافظ على روحه الأصيلة لهو أمر من قبيل الإجحاف.

إن الجدل الذي أثاره "لا تطفئ الشمس" مشابه إلى حد كبير الجدل الذي أحاط بامبراطورية م، إذ أن هناك أمراً مهماً يغيب تماماً عن أذهان أغلب المشاهدين عندما يشاهدون عملاً مقتبساً من عمل أدبي أو عمل هو إعادة تقديم أكثر عصرية لعمل أقدم.

المعالجة الدرامية تسمح للكاتب والمخرج بفرض رؤيتهم الخاصة على تفاصيل العمل، طالما أنه لا يمس بإطاره العام وروحه الأصيلة فتقديم نسخة معاصرة من عمل شهير هو أمر يتطلب تجدداً في الأفكار والتقديم والعرض.

ولا يمكن أبداً أن يكون العمل متجدداً أو معاصراً لو كان نسخة كربونية من الأصل ففي هذه الحالة لم قد يتعب أحد نفسه أصلاً؟ التجديد يعني التغيير والتطور خاصة لو كان العمل اجتماعياً فالمجتمع تغير وتطور وما كان أمس محرماً أصبح اليوم معتاداً.

لا تنسى عزيزي القارئ أن كلاً من إمبراطورية مي ولا تطفئ الشمس هما عملان أدبيان كتبا في زمن مختلف بالكامل عن زمننا لكن ولأن من كتبهما هو واحد من أساطير عالم الأدب، فهاتان القصتان صالحتان في كل زمان ومكان ولكل زمان ومكان والمعالجة الدرامية لا تنقص من إبداع عبد القدوس شيئاً إنما تمنحه رونقاً أكثر عصرية لا أكثر.

فأدب إحسان عبد القدوس لا يموت ولا يفنى وشمسه لا يطفئها الزمن، إنه أدب حقيقي أصيل سيظل شامخاً ممتعاً مذهلاً حتى نهاية الزمان، ورؤية نسخ عصرية من رواياته وقصصه لهو أمر ممتع بلا أي شك.

نرشح لك: مسلسلات رمضان 2024 بالوطن العربي.. قائمة كاملة للدراما الخليجية والسورية المشتركة!

عَبر أعوامها الطويلة العريقة قدمت السينما المصرية روائع لا تنسى كان بعضها مستمداً من روائع أدبية لعمالقة كنجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وغيرهم الكثير مَن ينسى أعمالاً مثل اللص والكلاب، رد قلبي، أنا حرة، الراقصة والسياسي.

لقد مضت أعوام طويلة على هذه الأفلام دون أن تفقد بريقها ورونقها لكن ورغم كل هذا الرونق، فإن التجديد ليس بفكرة سيئة على الإطلاق فالسينما تطورت والعالم تغير وهذه الروائع الأدبية كتبت بطريقة تجعلها تصلح لكل زمان ومكان وبوجود معالجة درامية بارعة تجدد أحداثها دون أن تخل بأصالتها يمكن لهذا السحر أن يعود من جديد.

 لقد قدمت تحفة فيكتور هيغو البؤساء مئات المرات كتكريم للأديب الذي خلد فرنسا في أدبه واستطاع كل عمل من هذه الأعمال تقديم هوية بصرية خاصة به دون الإخلال بالأصل أما في العالم العربي.

فقد رأينا هذا العام نسخة عصرية من تحفة أيقونية هي أنف وثلاث عيون المأخوذة من إحدى روايات إحسان عبد القدوس الشهيرة حيث قدم الفيلم الجديد رؤية سينمائية متجددة أكثر عصرية وأقل جرأة لعمل ساحر جريء كان من أوائل الأعمال التي ناقشت علاقة الرجل بالمرأة بتحرر وجرأة أثارت غضباً جماهيرياً كاسحاً في وجه عبد القدوس ذلك الزمن.

إن الأدب منجم ذهب لا ينضب لا تزال هناك أعمال كثيرة تستحق أن تنال نظرة عصرية أكثر تنوعاً أكثر قرباً لزمننا بشرط تقديمها بشكل يحترم قيمتها الفنية كتابة وإخراجاً من يدري قد نرى نسخة عصرية من رد قلبي أو نسخة متجددة من الرجل الذي فقد ظله فكما قلنا من قبل الأدب الحقيقي لا يموت ولا ينتهي زمانه إنما يستمر ويتجدد ويتماهى مع عصرنا.

بالعودة إلى إمبراطورية م يمكن لكل من قرأ القصة القصيرة أو شاهد الفيلم الرائع أن يدرك حقيقة أن روح الأستاذ ماثلة في الأحداث هي فقط أكثر عصرية أقرب إلى مجتمعنا الحالي، لقد أراد محمد سليمان عبد الملك ومحمد سلامة تقديم إمبراطورية م كتحية احترام وتقدير للكاتب الكبير وتوسيع أحداثها لتركز على علاقة أب أرمل محطم بستة أبناء في زمن مضطرب ومجتمع متغير في كل لحظة.

لم يكن مسلسل إمبراطورية م نسخة كربونية من الفيلم الذي كان إعادة تقديم مختلفة بالكامل عن أقصوصة ساخرة لكاتب أسطوري خلّده أدبه بل كان حكاية معاصرة اقتبست من إبداع أسطوري لا ينسى روحاً أصيلة بكوميديا عائلية دافئة تذكرنا أنه ومهما اختلفت في الرأي مع أبويك ومهما شعرت أن واحداً منهما يتحكم فيك.

فإن العائلة في النهاية هي كل شيء، لا زال العمل مستمراً في العرض ولا نعلم كيف يمكن أن يختم حكايته لكنه وبالقطع عمل ممتع أحسن الحفاظ على روح أصله بتجديد عصري ومتعة عائلية وأنه واحد من أمتع الأعمال التي شهدها السباق الرمضاني الحالي.

نرشح لك: مسلسلات رمضان المصرية 2024.. خريطة الدراما الاجتماعية والتاريخية والكوميدية!