أميــرة أحمــد
أميــرة أحمــد

د

كيف أحالت المثالية حياتي إلى جحيم!

بمجرد أن تقرأ كلمة “المثالية” يخطر في ذهنك صورة نموذجية متكاملة الأركان، كل شيء صحيح وعلى ما يرام، كل شيء تحت السيطرة، لكن في الحقيقة هذه الصورة ليست حقيقية بالمرة، هناك وجه بغيض وكريه للمثالية دعني أعرفك عليه اليوم..

في طفولتي وفي فترة المدرسة تحديدًا، تعرفت على معنى التنافس للمرة الأولى، التنافس في الحصول على أعلى الدرجات، بغض النظر عن كوني فهمت دروسي جيدًا أم لا، وبغض النظر عن مستوى ذكائي وظروفي والبيئة التي أعيش فيها، المهم هنا هو أن أحصل على المركز الأول، بدون وضع بقية الظروف في الحسبان أو حتى مراعاتها..

ثم تطور الأمر إلى التنافس في الحصول على أكبر عدد من الأصدقاء، ولفت انتباه المدرسين والحصول على اهتمامهم ومحبتهم، لأكون الطالبة المثالية، الحالة ذاتها كنت أعيشها في البيت، عليّ أن أكون الابنة المثالية والتفوق على اخوتي، والحصول على النصيب من الأكبر من قلب أمي وأبي.

حينها لم أكن على ادراك أو وعي كافي بما أفعل، لكن ما كان يحركني هو رغبتي في الوصول لصورة الفتاة المثالية، استمر الأمر معي حين كبرت، وكبرت معي وتضخمت الصورة المثالية، أصبحت متطلباتي أكبر، وروح التنافس بداخلي مشتعلة أكثر، والتحديات التي تقابلني أقوى، وبالرغم من ذلك كنت لا أرضى إلا بالكمال، بالصورة المثالية في كل جانب من جوانب حياتي، في العمل، في علاقاتي الاجتماعية، في علاقتي بنفسي، وبالتالي عليّ السيطرة على كل شيء، قررت بأني لن أسمح لخيط واحد بأن يفلت من يدي، علي أن أمسك بجميع الأمور وأتحكم بها تمام التحكم، لكي أتمكن من الوصول للصورة المثالية، ومن هنا بدأ يجن جنوني ..

في البداية كنت أعتقد بأن ثمة مشكلة تكمن في شخصيتي أنا وفي أفكاري، وبحثت عن حلًا للأمر، حلًا يستنقذني من الشعور المستمر بالقلق والتوتر، وجلد الذات والاحتراق والألم النفسي الذي أشعر به تجاه كل شيء في حياتي بسبب أو بدون سبب، وأثناء قراءتي وبحثي اكتشفت أني ابتليت بما يعرف بالعقل المهووس بالكمال والمثالية، هذا العقل يعمل وفقًا لآلية معقدة وعنيفة إلى أقصى حد، إليكم بعض قوانينها:

  • هناك أبيض وأسود فقط لا وجود لأية ألوان أخرى، نجاح وفشل، صحيح وخاطئ، لا يوجد وسط.
  • إذا لم تصل لنتيجة ممتازة ومثالية فهذا يعني أنك فشلت، لا يهم كم المجهود الذي بذلته في طريقك لهدفك، لا يهم حدوث بعض الظروف الطارئة، كل هذه الأمور عقل المصاب بهوس الكمال لا يضعها في الحسبان، بل يلقي بها عرض الحائط.
  • الحياة سباق مستمر، كل شيء يحدث هو منافسة وعليك تحقيق المركز الأول فيها، وإن لم يحدث فأنت محض فاشل، لا تصلح لشيء!
  • لا داعي لتجربة أي شيء حتى لا تتعرض للفشل، حتى وإن قضيت حياتك في شلل تام!
  • الألم والاحتراق النفسي وتأنيب الضمير وجلد الذات، مشاعر يومية عليك التأقلم معها والتعود عليها!
  • إذا كانت المثالية = 100%، فالفشل = 99%!
  • عليك الظهور دائمًا بمظهر رائع، شيء واحد غير منسق سيدفع الآخرون للنفور منك، سيحيلك إلى زومبي أو ربما يجعل منك أضحوكة!
  • إذا خالف شخص ما توقعاتك ولو لمرة واحدة، عليك التخلص منه للأبد لأنه ببساطة خرج من دائرة المثالية وتشوهت صورته وانتهى الأمر!
  • إذا كان عملك غير مناسب، أو مشروعك التي تعمل عليه فاشل، أو زواجك مسمم، استمر حتى لا تهتز الصورة المثالية!

هذا غيض من فيض ما كنت أعيشه يوميًا، كنت أدور في حلقة مفرغة أطارد الكمالية، ورغبتي الواهمة في السيطرة على كل شيء في حياتي ومنحه صك المثالية، ربما أبدو في حياتي في غاية الهدوء والثبات، لكن داخلي يحترق ومرهق للغاية.

المنطق يقول أن السعي للمثالية يؤدي بالفعل إلى تحقيق المثالية، لكن في كثير من الأحيان العكس هو الصحيح، إن السعي المستمر نحو المثالية يحيل الحياة إلى سجن، وهذا ما حدث معي، سم الهوس بالمثالية طال كل شيء في حياتي، وأحالها إلى جحيم مستعر ..

هوس مثالية الأداء

أثناء سعيي للمثالية في العمل وجدت أني اتراجع في كل شيء، حرصي الشديد على اخراج كل عمل بشكل مثالي، دفعني بشكل لا إرادي لتسويف مستمر وممطالة، ناهيكم عن انتظار اللحظة المثالية للعمل، ومحاولة خلق بيئة مثالية، والاهتمام بأدق التفاصيل لدرجة الملل، حالة من المرواحة في المكان لا نهائية، خوفًا من أن يخرج عمل غير مثالي، ولو أني بدأت وتوقفت عن التفكير في النتيجة لكان أفضل لي، حتى لو كان ما أنتجته رديئًا بإمكاني تعديله فيما بعد، لكن هوسي بمثالية الأداء أحال العمل المبدع والممتع والذي أحبه وأقوم به بكل شغف، إلى مهمة ثقيلة بغيضة أهرب منها، أدخلني في حالة شلل تام خوفًا من أن أحاول فأخطئ فأخرج من اطار المثالية الزائفة الذي يسجنني.

هوس مثالية العلاقات الاجتماعية

عليّ ألا أخالف توقعاتهم، عليّ أن أرضيهم بقدر الإمكان، علىّ أن أكون طيبة، متواجدة، مستمعة، داعمة وإيجابية طوال الوقت، هذه هي القوانين التي كانت تحكمني في علاقتي بالآخرين ضمن هوسي بالمثالية، لكن بمرور الوقت اكتشفت أن العيش بهذه الطريقة يفقدك هؤلاء الذين تحرص على ارضاءهم ويفقدك نفسك أيضًا، ثم أن أحدًا لم يُخلق لإرضاء الآخرين، لكل شخص حياته وظروفه وأفكاره، ومن الظلم بل ومن الجنون أن يعيش الشخص حياته لإرضاء الآخرين، فليذهبوا للجحيم.

السعي للكمال في العلاقات تحديدًا مدمر، لأن كل شخص يسعى للكمال والمثالية في حياته يفرض قوانينه على الآخرين، ويتوقع منهم أن يكونوا مثاليين أيضًا، لكن ما يحدث هو أن تقييدهم ووضعهم ضمن قوالب معينة صنعتها أنت بنفسك، يجعلهم ينفرون من العلاقة بأكملها وتدفعهم بعيدًا.

هوس مثالية الحالة النفسية

أكثر ما عانيت منه هو هوسي بالمثالية حتى على حساب صحتي نفسيًا، كنت أرفض الشعور بالاحباط أو اليأس، وأخبر نفسي بأنه عليّ أن أكون سعيدة وايجابية طوال الوقت، لا يجب أن أشعر بأية مشاعر سلبية، كنت أرفض وأستنكر هذه المشاعر وأتهرب منها، وهذا ضرب من الجنون، لأن طبيعتي البشرية تحتم عليّ أن أحزن وأفرح وأعيش كل المشاعر بتناقضها، أختبر كل الحالات من يأس وضعف وحماس وفتور، وأنه ليس من المثالية في شيء أن أتحول إلى روبوت مبتسم 24 ساعة في يومي!

هوس مثالية المظهر

يكاد يكون هذا الهوس هو المسيطر الأكبر على العالم بأكلمه الآن، وخير دليل على ذلك فلترات انستغرام وغيرها، الكل يسعى نحو المثالية وفقًا لمعايير لا أعلم من وضعها حقًا، وأصبح الخجل من المظهر شيء عادي وسط كل هذه الوجوه المثالية التي تطل علينا من انستغرام والتلفاز وغيرهم، وأصبحت أمور عادية مثل: بثور الوجه، النحافة، السمنة، الملامح العادية البسيطة، أمور مثيرة للقرف والنفور لدى البعض، على الرغم من كونها أمور طبيعية تمامًا ولا تدعو للخجل، فضلًا عن أنها لا تعرّفك، فهي ليست أنت، بالنسبة لي لقد عشت مع هذا الهوس سنوات، ازدياد وزني كيلو واحد فقط كفيل بحبسي داخل المنزل لأسابيع وشهور، عشت في حالة مستمرة من التقلب من موضة إلى أخرى، ومن ذوق إلى آخر، ليس بحثًا عما يشبهني بل بحثًا عما هو مثالي، حتى أدركت أخيرًا أن المثالي هو ما أجد نفسي فيه، ما يشبهني حقًا ليس ما يحدده الآخرون.

أنماط المثالية كثيرة للغاية ومتشعبة، لقد عشت لسنوات في وهم المثالية هذا، أهرب من هوس لأنغمس في آخر، محاولة مني لخلق شخصية ناجحة ومتميزة في كل شيء، ما حدث وما حققته وما مررت به أفخر به وإن كان بسيطًا، وما تعلمته حقًا هو أنه عليّ التركيز في رحلتي وعدم الالتفات إلى النهاية، عدم استعجال الوصول، الاستمتاع بكل خطوة أخطوها، والاستمتاع بتجربتي الشخصية في كل شيء، وبأنه لا بأس إن اخطأت فالخطأ هو الذي سيدلني على الصواب في المحاولة القادمة، وأهم ما يمكنني أن أخبرك به، أن هذه الحياة رحلة، ليست امتحان لجمع الدرجات واثبات أنك الأفضل وأنك مثالي في كل شيء، بل عليك الاستمتاع بكل ما تقوم به، بكل ما تحققه على هذه الأرض، بكل محاولاتك الفاشلة والناجحة.

تحرري من جحيم المثالية لم يحدث في يوم وليلة، بل استنزفني سنوات، أرهقني وأشعرني بأن الحياة صعبة ومعقدة، لكن بمجرد أن طردت هذا الوهم من رأسي، ووضعت كل تركيزي على نفسي على قوانيني أنا وأفكاري ومبادئي، عندها فقط بدأت استشعر الحياة، بسيطة للغاية ولا تستحق كل هذا العناء ..

في مقال قادم سأشارككم بكل ما قمت به لأحرر نفسي من وهم المثالية..