أميرة قاسيمي
أميرة قاسيمي

د

ماذا نفعل لأحلامنا؟

بدأتُ الكتابة منذ سنّ مبكّرة؛ كنتُ في الخامسة من العمر عندما بدأتُ مصاحبة القلم، أذكر جيّدًا عندما كان والدي يأخذنا للتنزّه عند البحيرة على ضفاف المدينة أو بجوار المنار الكبير للشاطئ. بين عطر الزّهر وزُرقة السّماء وحيويّة العشب الأخضر وسِحر الماء الممتدّ إلى الأفق: بدأ كلّ شيء. كنت آخذ كنّاش أبي من السّيارة لأبدأ بوصف ما أراه.. وعندما أنتهي من الكتابة، أقرأ كلماتي بنبرة شاعرٍ يقف على منصّة المجد بين آلاف القلوب النابضة عشقًا وتقديسا.

خمدت شعلة الوحي الطّفوليّ هذه لسنوات، كلّ ما أذكره هو طوفان الواجبات المنزلية الخاصّة بالتعبير الكتابي: “اكتُبْ عشرة أسطر عن حادثة مررت بها أو عن مدينة زرتها، تحدّث عن حواراتك مع جارك و كيف قضيت العطلة و العيد”.. كنّا نكذب في معظم الأحيان، وكان الكذب يرهق الكلمات، ويُرهقني.

* * *

عدتُ إلى المنزل بعد اختبار اللّغة العربية الخاصّ بنهاية مرحلة التّعليم الابتدائي، أرَيتُ الفقرة لأمّي، لم تعجبها؛ طلبوا كتابة بضعة أسطر عن أخطار التلوّث، وكانت أمّي تعتقد أنّني لم أذكر العدد الكافي من الأخطار.. المهمّ، أسوء علاماتي في امتحانات الشهادة كانت علامة مادّة اللغة العربية، ولهذا اقترحت أمّي أن أتمرّن على التّعبير  الكتابي في فصل الصّيف.

شكرًا أمّي.. طيلة سنوات مرحلة التعليم المتوسّط الأربعة، كانت موضوعاتي الكتابية في اللغة العربية تحتلّ السبورة و تستحوذ على إعجاب الأساتذة.

* * *

في أحد أيّام الشتاء، طلبت أستاذة اللغة الفرنسية من تلاميذها أن يكتبوا قصّة خيالية قصيرة.. أميرة قاسيمي، عند عودتها إلى البيت، حاولت مرارًا دون جدوى. لم تستطع تخيّل أيّ شيء.. في آخر الليل، استنجدت بوالدها الذي وافق على المساعدة. جلسا جنبًا إلى جنب يتخيّلان مغامرات فتاة صغيرة في الغابة.. لم تلفت القصّة النّاتجة انتباه الأستاذة، لكن أميرة لم تنسَ أنّها لم تستطع كتابة القصّة بمفردها.

في فصل الصّيف الموالي للحادثة، قامت أميرة بترجمة القصة التي كتبتها مع والدها إلى اللّغة العربية، وأرفقتها برسوم للفتاة و الغابة، وجعلت منها قصّة لطيفة كانت تنوي بيعها لصاحب مكتبة الحيّ، لكنّها لم تخبره عنها أبدًا. بدلًا عن ذلك، بدأت بمطالعة الكتب باللغة الفرنسية، و وجدت في القراءة متعة وشغفًا ليس له نظير. لم تتوقف أميرة عن القراءة منذ سنّ الثانية عشرة..

* * *

في السّنة الثانية من مرحلة التعليم الثانوي، كان عمري سبع عشرة سنة، وكنت كتبت قصة قصيرة باللغة العربية، قصّة قصيرة باللغة الفرنسية، وقصّة من أربعين صفحة بالإنجليزية، ومسودّتين غير مكتملتين بذات اللغة، وبضعة مقالات ومحاولات شعرية.

كنت أكتب قصّة جديدة في كلّ صيف من سنوات المرحلة المتوسّطة الثلاث الموالية لصيف القصّة المترجمة، و عندما انتقلت لمرحلة التعليم الثانوي كنت أكتب أثناء حضور الحصص الدّراسية الأقلّ أهمية.

ثمّ قرّرت التوقّف عن كتابة القصص التي لا يقرَؤها أحد.

بعد انتهاء امتحانات شهادة التعليم الثانوي (التي تكافئ الثانوية العامّة)، فتحت صفحة على الفيسبوك، كنت أنشر فيها مشاهد من قصص مختلفة، وأدعو القرّاء للقراءة والتقييم والنّقد…

كنتُ -ولا زلت- أريد كتابة رواية ضخمة، وأتمنّى أن أتمكّن يومًا من كتابة الشّعر.. في هذه الحياة، أعبُد القصص وتُخضعني الكلمات.

* * *

المشكلة هي أنّني كنت أطمح إلى الجائزة الكبرى، إلى الوقوف على المنصّة الأفخم منذ أوّل خروج إلى العلن: لم أشارك يوما في المسابقات الأدبية المحلية أو الوطنية، لم أكن أنوي نشر أيّ شيء حتّى تحين لحظة الولادة الحقيقية، حين يخرج الجنين الحيّ الكامل، فكلّ ما كُتب إلى اليوم مجرّد محاولات.. كنت أتوق إلى دخول المجد من بابه الأوسع من أوّل محاولة، إلى أن تعثّرتُ بقصص فتيات ملهمات ومبدعات خرجن إلى الدّنيا بحجمهنّ الصّغير، وإنجازاتهنّ البسيطة، وأحلامهنّ العظيمة.. فتيات بنَين مسيرتهنّ خطوة خطوة، اقتحمن السّباق العنيف وقبلن بالتّحدي دون ضمان مسبق بالنّجاح، أخرجن أنفسهنّ إلى النّور حين كنتُ أسمّي نفسي “فتاة الظّل”.

هذا أكبر خطأ قمت به اتجاه نفسي، و أرجو أن يتفاداه كلّ طموح: لا تحجبوا أنفسكم، لا تختمروا في الظّل، أخرجوا إلى العلن، أخطِئوا، ارتبِكوا، اسقُطوا، ضعوا أيديكم على الجرح فهكذا يُحدَّد الدّاء و الدّواء، ادخُلوا الميدان الذي يستهويكم، حاوِلوا كما حاول أديسون، اصبِروا و صابروا، اجعلوا أحلامكم أعظم من مقاس الحقيقة، اعملوا من أجل تحقيقها باجتهاد المؤمنين المتّقين، ادفنوا “الخوف من الخطأ”، خافوا أن تموتوا دون أن تحيَوا الحياة التي تُريدون.

أنا نادمة على كلّ الوقت الذي مضى و أنا أخفي نفسي في شرنقة كادت تخنقني.

أوّل لحظات التغيير الكبرى في حياتي كانت عندما فتحتُ بوّابة السّباق لنفسي.. مات فِيَّ الخوف من الفشل، ونَمَا بداخلي حبٌّ للمغامرة، تقبّلٌ لإمكانية الخطأ، وتقديرٌ للحظات الفوز االصّغير الذي لا يعلم به ولا يكترث له أحد.

في سنتي الجامعية الأولى، انضممت إلى كتّاب أراجيك، و في السنة الثانية بدأت التدوين مع مدوّنات الجزيرة، وانضممت إلى مجلة “إنفابل” الثقافية الجزائرية ككاتبة وعضو في لجنة القراءة، وتلقّيت دعوات للتّدوين و تكوين مدوّنين جدد.

من الجميل أن يكون لديك حلم، تأخذ بيده، يكبر معك، تشقى لأجله، تسهر، تتعب، تبكي.. حلم يكبر معك و يولد بك.. حلم يستحقّ أن تخرج به إلى النّور.