فن اللامبالاة البنّاءة

خلال يومنا نمرّ بالكثير من المنغّصات والاستفزازات بشكل متتالي يستنفذُ طاقتنا وإهتمامنا وحتى مواردنا. قد يبدأ الأمر بذلك الشخص الذي يراسلك ليلاً أو نهاراً دون مراعاةٍ لفارق التوقيت، مروراً بذلك الموظف الذي يتلاعب بأعصابك وأنت تنتظره، نهاية بحربك الضّروس في السوبر ماركت لنيل أفضل عرض ممكن على الخبز لتحصل على توفير سنتات على أنّها انتصار.
يتألم الكثير ويصرفون أوقاتاً هائلة خلال تلك المقاطعات اليومية أو حتى اللحظية، يتنوّع ذلك بداية من محاولة اكتساب التقدير من الأشخاص غير المفيدين مهنياً، للجدال اليومي على مواقع التواصل الإجتماعي مع عشرات الأشخاص الذين لم يلتقوهم يوماً ما لإثبات أنّهم على حق، نهاية بسهولة استفزازهم من قبل موظف بسبب عدم ابتسامته لهم مما يعتبرونه إهانة لكرامتهم!
يُضحّي الناس بجلّ أوقاتهم دون تحديد أولوياتهم التي تستحق التضحية في تلك الحياة القصيرة، ويستنفذون طاقتهم في جدال وغضب ومعاناة وألم ٍلا يستحقّ كل ذلك فعلاً، وفي هذا السياق يُعتبر كتاب فن اللامبالاة من الكتب الرائعة للكاتب مارك مانسون التي تستحق الإطلاع لتجنّب ذلك ومعالجته بشكل مختلف.
ينطلق الكاتب من السؤال الذي يجب أن نفكر فيه بصراحة، ماذا أريد فعلاً من الحياة؟
ما هو هدفي الحقيقي في الدنيا؟
يجيب معظم الناس بالإجابات التقليدية، والتي عادةً ما تكون تحقيق السعادة، والتي تأتي على شكل بناء أسرة أو تكوين ثروة أو الحصول على منصب مرموق أو شهادة علمية أو السفر إلى بقاع مختلفة في العالم، ولكن في حقيقة الأمر هذه مجرّد إجابة متوقعة تقليدية لا معنىً لها، فليس بمقور الإنسان أن يفعل كل ما سبق، وحياة الشخص فضلاً عن وقته وجهده لا يتّسعات لكل تلك الأهداف، وبالتالي يصلُ الكثير إلى اللاشيء مقارنة مع توقعاتهم الكبيرة السابقة، وهذا بدوره يسبب التوتر والقلق، والغضب والحياة التعيسة.
لعلّ هناك سؤالاً آخرَ يلفت النظر، ويجعلنا نفكّر بتمعن وتركيز أكثر ألا وهو:
ما نوع الألم الذي ترغب فيه في حياتك؟
مالذي أنت مستعدٌ للتضحية في سبيله، ومستعدٌ للمعاناة والكفاح من أجله؟
يؤدي تغيير السؤال إلى وجهة جديدة للحياة، بحيث تتغير الوجهة من السعيّ لتحقيق السعادة إلى معرفة ما يمكنني المعاناة في سبيله. االحياة ليست مجرد سعادة، وإنّما هي بكل بجاحة شكل من أشكال المعاناة. يعاني الأثرياء بسبب ثرائهم اذ تخلق الثروة مشاكل جديدة لهم، ولا ينامون الليل بسبب تقلبات أسعار البورصة مثلاً، أو بسبب خوفهم من الافلاس، وبالمقابل طبعاً يعاني الفقراء بسبب فقرهم. يعاني رائد الأعمال في تأسيس شركته، كما يعاني الموظفون خلال وظيفتهم، وطبعاً يُعاني العاطلون عن العمل من عدم وجود وظائف لهم، وهلمّ جرّاً….
وهنا يأتي دور فن اللامبالاة والاستهتار البنّاء، حيث يقترح الكاتب أن نحدد بدقة ما نريد الاكتراث له حقاً في هذه الحياة وعدم الافراط بالاكتراث غير البنّاء لكل ما حولنا، إن اللااكتراث بما لايهمنا سينقذ قدراتنا الذهنية، ويجعلنا نركّز على ما هو مهم فعلاً في حياتنا وعملنا.
و لفهم فن اللامبالاة يوصي الكاتب بمراعاة ما يلي :
لا تعني اللامبالاة عدم الإكتراث مطلقاً بل تعني الاكتراث بما مهو مهم لك فعلاً، لا تكترث إذا عبس بوجهك موظف البريد ، ولا تكترث لأنّ أحدهم اقتنص منك 20 سنت في حيلة ما، اهتم فعلاً بما يهمّك في الحياة، لا تنزعج إن تأخّر صديقك عليك خمس دقائق، وإنّما انزعج حقاً اذا تأخرت أنت بارسال مهمة ما في عملك في وقتها المحدد. لكي تتحمل الألم في الحياة عليك معرفة ما يهمّك فعلاً، وبكل بجاحة حدد المعاناة التي ستستمتع بها.