محمد شريف
محمد شريف

د

أبو يوسف الكندي – التوفيق بين الدين والفلسفة – مصادر المعرفة

يعد الكندي من أبرز فلاسفة العرب، وهو أحد أبناء ملوكها، فقد كان أميراً على الكوفة، أما عن تاريخ مولده أو وفاته، فقد اختلف المؤرخون حول ذلك، وليس هذا ما نبتغي ذكره في هذا المقال، فآراء هذا الرجل وأفكاره تعد ثروة لا بُد من الإطلاع عليها باستمرار، وهذا ما يهمنا.

يقول عنه سليمان بن حسان إن الإسلام لم يكن فيه فيلسوف غيره، ولعله يقصد بذلك أن الكندي هو أول فيلسوف في الإسلام، وبسبب هذا الإطراء، وبسبب الحفاوة الشديدة التي يكنها كافة الفلاسفة لهذا الرجل، ظهر في المقابل من ينقده ويتهجم عليه ويحط من شأنه لا لشيء إلا لطغيان الكندي الفكري على الساحة، الأمر الذي جعل الهجوم عليه نابعاً من الحقد الدفين والحسد القاتل، وفي ذلك نذكر القاضي أبو القاسم الذي هاجم الكندي بمرارة، ورأى أن أفكاره وآراءه وعلومه لا أهمية لها أو أنها لا تنفع في شيء، وقلما ينتفع منها أحد، ويستند في ذلك أن الكندي كان مفتقداً للتحليل الذي هو الأساس لمعرفة الحق من الباطل.

والكندي قبل أن يكون فيلسوفاً، فهو كذلك له العديد من المؤلفات في السياسة والأخلاق والموسيقى والفلك والجغرافيا والهندسة والنظام الكوني والطب والتنجيم، وهذا التنوع نشهده عند الكثير من فلاسفة الإسلام مثل ابن سينا على سبيل المثال وليس الحصر. وما يهمنا في هذه اللحظة أن نسرد بعض القضايا التي تناولها الكندي والتي ظهرت للوجود على يده، كما نذكر تعريفه الخاص للفلسفة.

يذهب الكندي إلى القول بأن أعلى الصناعات الإنسانية منزلة، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة، فهي علم الأشياء بحقائقها وذلك قدر طاقة الإنسان، والمقصد هنا من طاقة الإنسان، أن العقل له حدود معينة لا يستطيع تجاوزها، وإن فعل، فقد تنحرف بصيرته عن الحق، ويلبث الشك في قلبه. ويرى أن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق، وهنا نجد تطور كبير في فكر الكندي، وذلك لأنه ربط بين النظر والعمل، وهذا ما كان يتعارض مع فلاسفة اليونان الذين علوا بالنظري على العملي، ورأوا أن لذة الفلسفة في ذاتها، أي في التفكير فقط، وهذا ما جعل فلاسفة اليونان ناقمين بعض الشيء على الحضارة المصرية التي وإن برعت في علوم الفلسفة إلا أنها ذهبت بعيداً حد التطبيق الفعلي، وهذا ما شاهده أفلاطون عندما ذهب إلى مصر لدراسة الهندسة، حيث أدهشه البراعة في العمران. وبالعودة نجد أن الكندي في الجمع بين النظرية والتطبيق، هو في ذلك يتجه نحو العقيدة الإسلامية، والبيئة التي رسخها الدين الجديد والتي تحث على ضرورة الربط بين النص وتطبيقه والانتفاع منه على أرض الواقع، ومن هنا تظهر المعضلة الكبرى، تلك المعضلة التي لاحظها الكندي وبدأ في الوصول لحل لها، وهي مشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين، فكل طرف فيهما يحمل رؤية مغايرة للأخرى، ولا سبيل للتوافق بينهما، لذلك نجد هناك تفرقة واضحة بين الفلاسفة والمتكلمين، وهذه التفرقة تتضح في أن الفلسفة لا يقين فيها ولا يمكن أن تبدأ ببديهيات، فهي تهدم كل ما لا يمكن إثباته، على عكس علم الكلام الذي يبدأ بمقدمات يقينية، كأن نقول أن الله موجود مثلاً أو أن الإسلام هو الدين الحق، فهذا اليقين بالنسبة للفلسفة لا مصدر له، ولا يمكن البرهنة عليه.

لذلك اعتبر بعض المستشرقين فلاسفة الإسلام علماء كلام وليسوا فلاسفة، ولا يجب أن نخلط بين الفلسفة وعلم الكلام.

مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة

يعتبر الكندي أول فيلسوف عربي مسلم ناقش هذه المشكلة، فالبيئة التي عاش في أوساطها، كانت تشهد صراعاً حاداً بين فريق يتمسك بالعقل كسبيل للوصول إلى الحقيقة، كالمعتزلة، وفريق آخر كان فلسفي أيضاً لكنه يركز على الوحي الإلهي والنص في المقام الأول.

رأى الكندي أن الإسلام هو الميراث الروحي للمسلمين، كما أن الإسلام لا يُعارض الفلسفة بل يدعمها ويدعو للتدبر والتمعن والتأمل، فلا يمكن -على حد قول الكندي- أن نرفض الفلسفة وذلك لأنها تحوي العديد من الأسرار التي تعتمد على البرهان والعقل.

ولكن هل هناك أوجه تشابه بين الدين والفلسفة؟ وماذا عن الاختلاف بينهما؟

يبدأ الكندي بالقول بأن الغاية من الدين والفلسفة واحدة، فالفلسفة العلم بحقائق الأشياء، والدين يهتم بإصابة الحق والعمل بمقتضاه، فالغاية التي ينشدها الأنبياء هي ذاتها ما يحاول الفلاسفة التوصل إليها، فالحقيقة هي الغاية الأسمى. هذا من جانب الغاية.

أما من جانب المنهج، فالفلسفة تنتهج العقل كوسيلة للوصول إلى الحقائق وذلك بالعلم والاكتساب والبرهان والاستدلال العقلي، بينما الدين يقوم على أساس الوحي، فالنبوة أساسها الإلهام، وهذا ما تعارضه الفلسفة، فالوحي ليس يقيني الثبوت، كما أن الإلهام وإن كان موجوداً إلا أنه مقتصر على فئة بعينها، وهذه الفئة قد تُضللنا عن الحقيقة !

ولهذا السبب نجد أن المنهج الصوفي في الوصول للحقيقة لا يُعترف به من قبل بعض الفلاسفة، وذلك لإن الإلهام الصوفي مقتصر في البعض وليس الكل، ولا نستطيع أن نحتكم على حقيقة توصل إليه واحد أو اثنين أو عشرة بل لا بُد أن تكون عامة وتُصدق على الجميع.

وهنا يذكر الكندي أن الفلسفة -والعلم الإنساني- كي يصل للحقيقة المجردة يحتاج إلى بحث عميق واعتبار ومنطق ورياضيات، وسهر طويل واعتكاف، بينما الدين أو علوم الأنبياء لا تحتاج لهذا كله، فهي تعلو بنفسها عن العلم الوضعي حيث الوحي الإلهي الذي لا ريب فيه، وهذا ما يميز النبي على غيره، وبدلاً من هذا التفاوت الكبير، يذهب إلى القول بأن الاستدلال العقلي إذا كان هو ذاته نهج الفلاسفة، فمن خلاله أيضاً يمكن انتهاج نفس المنهج لتدعيم العقيدة وإثباتها وتعضيدها أيضاً، وقد ذكر في ذلك العديد من الأمثلة من الآيات القرآنية التي دعمها بالمنطق والاستدلال العقلي.

يتوصل الكندي بعد بحث مطول وشرح دقيق إلى القول بأن الغاية واحدة سواء في الفلسفة أو الدين، قد يختلف المنهج لكن الهدف المرجو في النهاية يصب في صالح الغاية المُرادة، ومن ثم فلا وجه تعارض بين هذين الخصمين -على حد قول المتصارعين- ولهذا يهاجم الكندي أعداء الفلسفة ويفضح سوء فهمهم ومقصدهم، فهم لم يدركوا بعد الحق في ذاته وإن كانوا من أهل الحق -وذلك بدون استحقاق- والعلة خلف ذلك تكمن في جهلهم بأساليب الوصول إلى الحقيقة.

وينهي الكندي قوله بأن المُعارض للفلسفة، عليه أولاً أن يدرسها ويطلع عليها بعمق، لا أن يتلفقها من قبل الآخرين، ففي مجال البرهان لا سبيل سوى الدراسة وليس السماع وحده كفيلاً بأن نُبدي الرأي.

مصادر المعرفة

يرى الكندي أن مصادر المعرفة ثلاثة، الحس، العقل، الإلهام، وهذا ما يتفق مع روح الإسلام، فالحس يدرك الوجود كما هو، والعقل يدرك ما هو معقول، والإلهام مصدر الإشراقات والتجليات الإلهية. وبينما نجد التفاوت بين المدارس الفلسفية في مصدر المعرفة، فنجد التجربيين من جانب، والعقليين من جانب آخر، وأصحاب المذهب النقدي، نجد أيضاً الكندي يجمع بين التجربة أو الحس والعقل والإلهام، وهذا أمر جلي في القرآن الكريم الذي يعتبر الحقيقة والمعرفة كامنة في أكثر من مصدر، وكل مصدر قادر على الوصول إليها.

وما نستدله من ذلك أثر البيئة الإسلامية في ترويض الفلسفة وفقاً لمعطياتها، فلا شك أن الكندي قدر درس أرسطو كما فعل فلاسفة الإسلام من بعده، لكن ما أضافه هو الصبغة الإسلامية للفلسفة كي تتفق مع الدين بل وتؤيده.

وباختصار شديد، لا تعارض بين الدين والفلسفة، فالغاية واحدة -كما ذكرنا آنفاً- وإن اختلفت الوسائل في ذلك، ولعلنا نذكر ما ذهب إليه ابن رشد في مسألة التوفيق إذا ما اُتيحث لنا الفرصة في مجال آخر.