أكثر من 100 ألف تعديل جيني… والنتيجة: حياة مُعاد تصميمها بالكامل
4 د
تمكن علماء في المملكة المتحدة من ابتكار بكتيريا اصطناعية تدعى Syn57 بشيفرة وراثية معدلة.
اختزل الفريق الشيفرة الوراثية إلى 57 كودون فقط لتبسيط الشيفرة الأصلية.
يمكن لهذه التعديلات أن تُدخل أحماضًا أمينية غير تقليدية وتصمم بروتينات جديدة تمامًا.
تمنح Syn57 مقاومة للفيروسات وتحقق سلامة بيولوجية عبر عدم انتقال جيناتها.
يضع هذا الإنجاز الأسس لابتكارات مستقبلية في الهندسة الوراثية والعلاج الصناعي.
في قفزة علمية قد تغيِّر فهمنا للحياة نفسها، تمكن فريق من العلماء في المملكة المتحدة من ابتكار بكتيريا اصطناعية تدعى Syn57، تحمل شفرة وراثية مُعدّلة جذريًا وأكثر اختزالًا من أي كائن حي آخر عُرفه العلم على الإطلاق. لنتعرف سويًا على تفاصيل هذا الإنجاز المذهل الذي يمزج بين علم الوراثة والهندسة الحيوية ويطرح أسئلة شائكة عن ماهية الحياة وحدود التدخل البشري فيها.
منظومة الشيفرة الوراثية: تقليص لافت وبداية جديدة
كلنا نعلم أن الحياة تُكتب بلغتها الخاصة عبر الشيفرة الوراثية – تلك السلاسل الطويلة من أحماض الدي إن إيه (DNA) والآر إن إيه (RNA) التي تشكل في النهاية وصفة بناء الأحياء. تعتمد الطبيعة في كل الكائنات الحية على مجموعة من 64 "كودون"؛ كل كودون هو ثلاثي من النيوكليوتيدات يمثل رمزًا لإضافة حمض أميني أثناء بناء البروتينات.
الغريب في الأمر أن الجسم البشري، بل وجميع الكائنات، تحتاج فعليًا إلى 20 حمضًا أمينيًا فقط، ما يجعل كثيرًا من الكودونات زائدة ومكررة بلا ضرورة واضحة. هنا، يأتي التحدي الذي تبناه فريق مختبر مجلس البحوث الطبية للبيولوجيا الجزيئية في بريطانيا: تقليص الشيفرة بحيث لا يتبقى سوى 57 كودون فقط من أصل 64، في عملية إعادة صياغة جذريّة لنواة الحياة.
هذه الخطوة تفتح الباب أمام فهم أعمق لترتيب الكودونات ووظائفها، وتساهم في توسيع آفاق الهندسة الوراثية بعيدًا عن التصورات التقليدية.
تطبيقات مذهلة وتحولات لأنظمة الحياة
هذا التبسيط الجريء للشيفرة الوراثية لا يعتبر فقط جدلًا أكاديميًا، بل يحمل في طيّاته وعودًا عملية كبيرة. فعبر استبدال الرموز الزائدة وترميز كل معلومة جينية بوضوح، يمكن تحرير بعض الكودونات لاستخدامها في أغراض جديدة، مثل إدخال أحماض أمينية "غير تقليدية" لم تكن جزءًا من الحياة الطبيعية من قبل.
ذلك يعني إمكانية تصميم بروتينات جديدة بالكامل، أو حتى ابتكار بوليمرات وجزيئات كبيرة لخدمة الصناعة أو الطب لم تكن الطبيعة يومًا قادرة على تركيبها. ومن المثير كذلك أن هذه الشيفرة "الغريبة" تجعل Syn57 غير مقروءة للكائنات الطبيعية مثل الفيروسات، فتحصّنها ضد العدوى في المصانع الحيوية – وهي مشكلة مكلفة تواجه إنتاج البروتينات بكميات هائلة حول العالم.
وهنا يتقاطع الحديث مع هموم السلامة البيولوجية، إذ يؤدي تغيّر الشيفرة الوراثية إلى نوعٍ من التعقيم الذاتي – فالبكتيريا المعدلة لن تنقل شفرتها بسهولة إلى المحيط الحيوي، ما يطمئن العلماء والجمهور معًا في ظل المخاوف من انتقال الجينات المعدلة عبر البيئة.
التحدي الهندسي: مئة ألف تغيير جيني
للوصول إلى هذه النتيجة الاستثنائية، لم يكن الطريق سهلًا على الإطلاق. فقد اضطر الباحثون لتصميم الشيفرة الجديدة بالكامل على الحاسوب، مقسمين الجينوم إلى قطع صغيرة لمراجعتها وتجميعها لاحقاَ في مختبراتهم. في المجمل، أجرى الفريق أكثر من 101 ألف تعديل على الكود الأصلي لبكتيريا الإيشيريشيا كولاي، كل منها خضع لاختبارات دقيقة للتأكد من عدم وقوع ضرر غير متوقع على البكتيريا. ومع كل خطوة في إعادة بناء الجينوم، كان الفريق يتساءل: هل ستعيش البكتيريا بهذا التبسيط غير المسبوق، أم أن الحياة تتطلب مزيدًا من التعقيد مما كنا نظن؟
وبالعودة إلى النتائج النهائية، نجد أن Syn57 لم تصمد فقط، بل احتفظت بقابليتها للحياة، مما يدل على مرونة النظام الحيوي وقدرته على استيعاب تغييرات جذرية في بنيته.
آفاق واسعة ومستقبل الهندسة الحيوية
هذا العمل الطموح يضع الأساس لتوليد "لغات وراثية" جديدة، استخدمت تقنيات تخليق الجينوم بالكامل لاكتشاف مناطق لم تطأها أقدام الطبيعة سابقاً. يقول قادة الفريق البحثي إن الخطوة القادمة ستكون دمج أحماض أمينية اصطناعية بتسلسل الحياة ذاته، الأمر الذي سيغير مشهد الصناعات الحيوية، وسيمنحنا أدوات أكثر قوة لتطوير أدوية ومواد جديدة، أو حتى بناء حواسيب حيوية متقدمة مستقبلاً.
ولا يستبعد علماء الهندسة الوراثية أن تثمر مثل هذه الابتكارات مستقبلًا عن مقاربات جديدة في مكافحة الأمراض، وحماية البيئة من تسرب الكائنات المعدلة جينيًا، ومواكبة تحديات الأمن البيولوجي، في مشهد لن تظل فيه الحدود بين الطبيعي والصناعي كما كانت.
في النهاية، يكشف هذا الإنجاز عن قدرة الإنسان على إعادة كتابة أبجدية الحياة نفسها، مسجلاً بداية عصر جديد في علوم البيولوجيا الاصطناعية حيث لم يعد الجينوم محظورًا على الخيال العلمي، بل أصبح مختبرًا مفتوحًا لتجارب العلم المدهشة. فهل نحن على أعتاب ولادة عالم جديد تمامًا تحكمه شيفرات تصميمها الإنسان؟ النقاش لا يزال مفتوحًا، وما سيأتي في السنوات المقبلة قد يتجاوز أكثر تخيلاتنا جرأة.
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.