هل نحن حقًا “بشر نقيون”؟ اكتشافات جديدة تفضح أصلنا المختلط
4 د
كشف كهف دينيسوفا في سيبيريا عن سلالة بشرية جديدة تدعى الدينيسوفان.
أدى اكتشاف إصبع في الكهف إلى تحديد نوع غير معروف سابقًا من البشر.
تحليل جيني يظهر أن سكان ميلانيزيا يحملون ٤-٦٪ من جينات الدينيسوفان.
اكتشافات جديدة في التبت تؤكد قدرة الدينيسوفان على العيش في بيئات قاسية.
الدراسات الجينية تكشف عن لقاءات بين الدينيسوفان والنياندرتال في عصور ما قبل التاريخ.
عندما عثر العلماء على كهف دينيسوفا في سيبيريا، لم يتخيلوا أن هذا الموقع الهادئ يخفي بين جدرانه تاريخ سلالة بشرية لم يكن أحد يعلم بوجودها. القصة بدأت بملاحظة غير عادية لجينوم بشري في عظام متآكلة بصمت، وها هي الدراسات الحديثة تفتح لنا نافذة على شعب "الدينيسوفان" الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من تراثنا الوراثي دون أن ندرك.
في عام 2010، تسبب إصبع صغير عُثر عليه في أعماق كهف دينيسوفا بصدمة لعالم الأنثروبولوجيا، حيث كشف تحليل الحمض النووي عن نوع بشري غير معروف من قبل ولم يكن ينتمي إلى الإنسان الحديث أو النياندرتال. هذا الاكتشاف استند في البداية إلى الحمض النووي للمتقدرات (الميتوكوندريا)، الذي مثّل دليلاً صامتا لوجود سلالة جديدة بين أسلافنا.
وعندما تعمق العلماء في دراسة الحمض النووي النووي لاحقاً، وجدوا روابط وثيقة بين الدينيسوفان والنياندرتال، واكتشفوا أيضاً أن سكان ميلانيزيا اليوم يحملون بين ٤ إلى ٦٪ من جينومهم من هذه السلالة القديمة. إذن، كانت لقاءات الأسلاف مع الدينيسوفان أعمق مما كنا نظن، وما زالت بصمتها راسخة في جينات بعض المجموعات البشرية.
ومع توالي الاكتشافات، بدأت صورة الدينيسوفان تتضح أكثر. فعلى بعد آلاف الكيلومترات من سيبيريا، وجد باحثون فكا ضخماً في كهف بيشيا بكارست في هضبة التبت، وأثبت التحليل البروتيني في ٢٠١٩ أن صاحب هذا الفك كان من الدينيسوفان. هذا الدليل لم يسد فجوة جغرافية فقط، بل أظهر قدرة هذه السلالة على التأقلم مع بيئات قاسية مثل المرتفعات عالية البرودة، وهو ما تؤكده دراسات جينية حديثة أظهرت انتقال جينات التكيف مع نقص الأكسجين من الدينيسوفان إلى سكان التبت الحاليين.
الربط بين الماضي والحاضر يظهر بقوة عند تتبع جينات الدينيسوفان في عدة أماكن من العالم، كتايوان ولاوس وجنوب شرق آسيا، وحتى في سكان الآيتا ماجبوكون في الفلبين الذين يحملون أعلى نسب من جينات الدينيسوفان المعروفة حتى الآن. وهذا يبرز أن تداخل الحمض النووي لم يكن حدثاً عابراً، بل تراكم عبر موجات متعددة من التزاوج والهجرة البشرية في عصور ما قبل التاريخ.
اكتشافات دقيقة وعلم حديث يعيدان تشكيل القصة
ومن اللافت أن التطور التقني في البحث فتح آفاقاً جديدة في هذا المجال، إذ لجأ العلماء مؤخراً لتحليل الرواسب في كهف دينيسوفا وليس فقط العظام. فبصحبة تقنية التأريخ البصري عالية الدقة، تم فحص حوالي ١٠٠٠ عينة رسوبية لتوفير تسلسل زمني كامل لوجود الدينيسوفان في الكهف على مدى ٣٠٠ ألف سنة. هذا المنهج سمح بمتابعة التغيرات الوراثية والبيئية التي مرت بها المنطقة، وكشف عن تداخل فترات تواجد الدينيسوفان مع النياندرتال، بل واكتشاف أفراد هجناء - مثل الفتاة التي كانت ابنة لأم نياندرتالية وأب دينيسوفاني، الأمر الذي جسد اللقاءات بين السلالتين من كونها مجرد احتمال نظري إلى واقع إنساني عاشه الأجداد.
إذا انتقلنا من الرواسب والعظام إلى الحمض النووي المعاصر، نجد أن التحليلات الجينية الرئيسية أوضحت أن هناك أكثر من مجموعة دينيسوفانية شاركت جيناتها مع أسلافنا، بما ينسجم مع التوزع الجغرافي الواسع لبقاياهم الذي أشارت إليه الاكتشافات الحفرية من الصين إلى جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادئ. وفي كل مرة تكشف دراسة عن خصائص جديدة لفك أو سن أو بروتين، نتعلم كيف تفاعلت هذه السلالات البشرية مع بعضها عبر آلاف السنين، وكيف تركت آثارها وراثية في قدرتنا على التأقلم مع البيئات المختلفة.
وهنا يتضح كيف أدى تضافر تقنيات علمية مثل تحليل الحمض النووي المدفون في التربة، ودراسة البروتينات القديمة، والتأريخ الدقيق، إلى رسم لوحة ديناميكية لحركة الشعوب وبداية العائلات البشرية المندثرة والمنسية. فكل طبقة رسوبية أصبحت صفحة من كتاب مفتوح على ماضٍ يضج بالحياة والتداخل بين أنواع الإنسان.
ما يمكننا استخلاصه من هذه السردية العلمية هو أن سلالة الدينيسوفان لم تكن طيفاً عابراً في سجل البشرية، بل سلالة ذات مكانة وراثية مؤثرة لا تزال عالقة في جيناتنا اليوم. إن فهمنا لسلوك الدينيسوفان - بدءاً من مرونة التأقلم البيئي وانتهاء بقدرتهم على التواصل جينياً مع أنواع بشرية أخرى - يعطي بعداً جديداً لتطور الإنسان وإعادة النظر في تصنيفات السلالات القديمة.
وفي ضوء هذه الاكتشافات المتوالية، أصبح للكهف "البسيط" الذي خبا ذكره يوماً في سيبيريا شأن عظيم في إعادة كتابة فصول من تاريخ الإنسان. يبدو بوضوح أن قصتنا ليست منفصلة عن هذه الفروع البشرية، بل نحن كلما تعمقنا في تفاصيلها اكتشفنا أننا نسير بخطى أسلاف خلطوا بين قارات وجينات وبصموا وجودهم حتى في صحتنا اليوم.
وبذلك، فإن عودة "السكان الأشباح" - كما كان يُطلق على سلالة الدينيسوفان سابقاً - إلى دائرة الضوء ليس سوى تتويج لمسيرة البحث العلمي وتطور أدواته، ليصبحوا جزءاً حيّاً من القصة البشرية الكبرى التي نواصل اكتشاف فصولها حتى اللحظة.
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.