تغيير بسيط في شكل البلازما قد يفتح باب الاندماج النووي للأبد

3 د
نجح باحثون في تعديل شكل البلازما في أجهزة التوكاماك، وحققوا نتائج مدهشة.
الشكل الجديد للبلازما، المعروف بـ“السالبية المثلثية”، أظهر استقرارًا غير مسبوق.
تمكنت البلازما من تبريد الأطراف، مما يحمي جدران المفاعل من التلف.
التجربة الجديدة تناقض النظريات القديمة وتفتح آفاقًا أمام الجيل القادم من المفاعلات.
أثار الإنجاز حماسًا عالميًا مع تجارب ناجحة في مفاعل "سمارت" بإسبانيا.
هل تخيلت يومًا أن تغييرًا بسيطًا في شكل البلازما يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه أمام تحقيق حلم الطاقة النووية النظيفة والدائمة؟ هذا ما أعلنه مؤخرًا فريق الباحثين في مرفق دي-III-دي الوطني للاندماج النووي في الولايات المتحدة، إذ توصلوا إلى اختراق علمي مهم قد يعيد رسم ملامح مفاعلات الاندماج المستقبلية ويقود العالم نحو مصادر طاقة أكثر أمانًا واستدامة.
البداية جاءت مع تجربة جريئة تعيد تقييم الشكل التقليدي لطرف البلازما داخل أجهزة التوكاماك – وهي الحاضنات الممغنطة الضخمة التي تشكل عصب أبحاث طاقة الاندماج حول العالم. اعتادت التوكاماك على تكوين بلازما بشكل حرف D تقليدي، إلا أن الفريق الأمريكي غيّر هذه القاعدة، واختبر بلازما على هيئة "D" مقلوب، أي بوجه دائري نحو جدار الجهاز الداخلي، فيما يشبه قوسًا معكوسًا. المفاجأة أن هذه الهندسة غير التقليدية، والتي تُعرف علميًا باسم “السالبية المثلثية” أو negative triangularity، أتت بنتائج مدهشة فاقت توقعات خبراء الطاقة النووية.
ترتبط أهمية هذا الابتكار بالأهداف المحورية للاندماج النووي: تحقيق بلازما مستقرة وعالية الكثافة والضغط، وبنفس الوقت السيطرة على سلوك البلازما على الحافة حيث يلامس السطح، إذ أن تسرب الحرارة الشديد عادةً ما يهدد سلامة الجدران ويسبب مشكلات فادحة في كفاءة التشغيل وطول عمر المفاعل. هنا استطاع شكل البلازما الجديد من تحقيق توازن نادر: درجة استقرار عالية، ضغط مرتفع، واحتفاظ فائق للطاقة داخل البلازما. وليس ذلك فحسب، بل لوحظ أيضًا انخفاض كبير في الاضطرابات التي عادةً ما تدفع بالجزيئات الساخنة نحو الجدران وتؤدي إلى تآكلها.
حل جذري لمعضلة التسخين والتبريد في المفاعلات
ولعل أبرز ما ميز هذا النهج هو تفوق البلازما ذات الشكل المقلوب في حل معضلة جوهرية طاردت أبحاث الاندماج لعقود: كيف نحافظ على قلب البلازما فائق السخونة من أجل التفاعل النووي، وفي ذات الوقت نُبرد الأطراف القريبة من جدران المفاعل لحمايتها من التلف السريع؟ من خلال الشكل السالب للمثلثية، نجح الباحثون في دفع البلازما للدخول فيما يسمى "افتراق الحاجب" (divertor detachment)، وهي حالة فريدة تتشكل فيها طبقة عازلة باردة عند أطراف البلازما، فتمنع الحرارة والجسيمات من الإضرار بالجدران، مع استمرار استقرار البلازما من دون اضطرابات خطيرة. وهذا الربط بين سيطرة الحرارة واستقرار التشغيل يعتبر عنصرًا جوهريًا لتحقيق قفزة نوعية في هندسة مفاعلات الاندماج التجارية.
استمرارًا لهذا النجاح، يعمل العلماء اليوم باستخدام محاكاة رقمية متقدمة لفهم آلية عمل هذه الظاهرة بدقة أكبر، مما يمنحهم ثقة أعلى في تعميم نتائجها على تصاميم الجيل القادم من مفاعلات الاندماج النووي. وبهذا، نجد أن تطوير شكل البلازما يُبرز كيف أن تفاصيل هندسية بسيطة قادرة على قلب الموازين والتحكم في تكنولوجيات بالغة التعقيد مثل التوكاماك.
ما يجعل الاكتشاف أكثر إثارة هو أنه يناقض النظريات القديمة التي رأت أن الأشكال غير التقليدية للبلازما قد تفرز حالات عدم استقرار أكبر، بينما أوضحت التجربة الأخيرة أن شكل السالبية المثلثية ليس آمنًا فحسب، بل يمنح المفاعل قدرة أفضل على الحماية والتحكم باستهلاك الطاقة والحد من فقدان الجسيمات.
ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام العالمي بتبني هذا الابتكار في تكنولوجيا التوكاماك لم يتوقف عند حدود أمريكا، فقد سجّل في يناير الماضي مفاعل "سمارت" في جامعة إشبيلية الإسبانية أول إنتاج ناجح لبلازما من الشكل ذاته، مؤكدًا عالمية الزخم والحماس تجاه هذا النهج الجديد.
وفي خلاصة المشهد، يبدو أن هندسة البلازما المقلوبة ليست مجرد فكرة نظرية، بل بوابة واقعية نحو الجيل القادم من مفاعلات الاندماج النووي، مع آمال عريضة بأن تساهم في تحويل الطاقة الشمسية الاصطناعية من حلم بعيد إلى واقع متاح للجميع. وبينما يتسابق المهندسون لدراسة النتائج وتطوير التطبيقات، تزداد إمكانية بناء مصادر طاقة آمنة، صديقة للبيئة، وقادرة على تلبية طموحات البشرية في عصر جديد من الابتكار والازدهار.
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.