ذكاء اصطناعي

زرعة دماغية تترجم الأفكار إلى كلام… دون الحاجة إلى نطق أو حركة

ملاذ المدني
ملاذ المدني

4 د

طور باحثون جهاز زراعة دماغية يحول "الحديث الداخلي" إلى كلمات مسموعة.

التقنية تساعد أصحاب الإعاقة الحركية على استعادة قدرتهم على التواصل.

تعتمد التقنية على خوارزميات تعلم عميق لفك شيفرة الإشارات الدماغية.

يواجه النظام تحديات في تحسين دقته ومعالجة مخاوف الخصوصية والأخلاقيات.

المستقبل يعد بنقل الابتكارات من المختبرات إلى الحياة اليومية.

تخيل عالماً تصبح فيه أسرار العقل الباطن مسموعة، والأفكار التي تدور في ذهنك تتحول إلى كلام مسموع أو نص واضح دون أن تنطق بكلمة واحدة! ربما يبدو هذا المشهد من أفلام الخيال العلمي، لكن باحثين أمريكيين وضعوه فعلاً على أرض الواقع عبر تطوير جهاز زراعة في الدماغ قادر على فك شيفرة "الحديث الداخلي" وتحويله إلى كلمات تُسمع أو تُقرأ.

في تقدم مبهر في مجال واجهات الدماغ والحاسوب، طور علماء بقيادة فرق من جامعات أمريكية معروفة أحدث نظام قادر على تفسير النشاط العصبي المرتبط بالحديث الفكري الداخلي وتحويله إلى أصوات أو نصوص. هذه التقنية الجديدة أثبتت فعاليتها في تجارب واقعية شملت أربعة متطوعين يعانون من شلل حاد، إذ وصلت دقة الترجمة حتى 74% في بعض الحالات. هذا النجاح يفتح الباب أمام الملايين من أصحاب الإعاقة الحركية أو فقدان القدرة على الكلام، ليعيد إليهم القدرة على التعبير والتواصل بشكل طبيعي.

وهذه القفزة العلمية تأتي في سياق جهود حثيثة استمرت لسنوات لجعل واجهات الدماغ الحاسوبية أداة عملية، تتخطى حدود الاعتماد على الحركات العضلية، نحو معالجة المعرفة المجردة التي تولد في المخ مباشرة—أي الأفكار الصامتة التي لا تعبر عنها الشفاه أو الأيدي.


كيف يعمل نظام فك شيفرة الأفكار؟

في قلب هذه التقنية المبتكرة يكمن جهاز زراعة دماغية يرصد بدقة نشاط الخلايا العصبية في منطقة القشرة الحركية المرتبطة بالنطق. يعتمد النظام على خوارزميات تعلم عميق (machine learning) لتحليل أنماط الإشارات الدماغية المرتبطة بوحدات أصغر من الكلام تُسمى "الفونيمات"، وهي اللبنة الأساسية لتشكيل الكلمات والعبارات. بعد ذلك يبني الجهاز هذه الوحدات في جمل كاملة، ليحول الأفكار الداخلية إلى صوت مسموع أو نص مقروء.

هذه الطريقة المتطورة تختلف عن الأساليب السابقة التي كانت تعتمد على محاولة الشخص المصاب بالكلام أو الكتابة من خلال التفكير فقط في استثارة العضلات (لكن بدون تنفيذ حراك عضلي فعلي)، بينما هنا يكفي للمستخدم أن يفكر بما يريد قوله ليتم رصده وتحويله إلى كلام خارجي. وهذا الفارق يختصر زمن الاستجابة بشكل هائل ويقلل من الجهد الذهني.

ولمعرفة كيفية تمييز الجهاز بين الأفكار الداخلية ومحاولات التكلم الفعلي، أظهرت الدراسات أنه رغم التداخل بين الإشارات العصبية الناتجة عن التخيل المرتبط بالكلام ومحاولات الحديث المجهضة، إلا أن النظام يستطيع الفصل بينها وتحليل بياناتها بدقة مقبولة. وباستخدام إحصاءات ذكية لفهم التراكيب الشائعة للغة وعدد كبير من الكلمات (وصل إلى 125 ألف كلمة محتملة)، تطوّر نظام يمكنه تحويل الأفكار إلى عبارات مفهومة.

وهذا يبرز مدى اعتماد التقنية الجديدة على المزج بين الفيزياء العصبية الحديثة والذكاء الاصطناعي المتقدم، ليصبح الجهاز أكثر سرعة وفعالية مقارنة بالطرق التقليدية.


التحديات والمحاذير في ترجمة الأفكار

بالرغم من التفاؤل الكبير، يدرك العلماء أن المسافة ما زالت طويلة قبل أن تصل هذه التقنية إلى الاستخدام الواسع في الحياة اليومية. أحد أكبر التحديات هو تحسين دقة الترجمة لتقترب من الكمال، خاصة عند تنوع المستخدمين واختلاف أدمغتهم. يعمل الباحثون على تطوير أجهزة زرع تغطي مناطق أوسع من المخ، وعلى تحسين نماذج الذكاء الاصطناعي لتكون أكثر تخصيصاً لكل شخص حسب نمطه العصبي.

هناك جانب أخلاقي وتقني لا يقل أهمية: ماذا لو التقطت الزرعة أحاديث العقل التي يريد أصحابها أن يحتفظوا بها لأنفسهم فقط؟ وللوقاية من ذلك، يفكر الخبراء في أنظمة تحكم ذهنية "كلمة سر" تبدأ وتوقف ترجمة الأفكار، وقد نجحت هذه الفكرة بالفعل بنسبة استجابة وصلت إلى 98% ضمن التجارب الأولية.

إن البحث المستمر في مجال تقنيات الأعصاب—سواء عبر تحسين دقة التقاط الإشارات أو تخصيص الخوارزميات لكل مستخدم—يثبت أن التطوير لا يزال في بداياته، ولكن الوتيرة التصاعدية تمنح الأمل بقفزات نوعية قريبة.


مستقبل واعد – دماغيات ترد الروح للكلام

ما يبعث الحماسة هنا هو أن هذا النظام ليس ابتكاراً وحيداً، بل يشكل جزءاً من سباق علمي عالمي يشهد تجارب متقدمة لتحويل الأفكار إلى لغة منطوقة فورياً، وربما تخصيص مثل تلك التقنيات لاحقاً حتى تكون اللغة الناتجة أكثر طبيعية وفهمًا.

وكما أشار الباحثون أنفسهم، فإن رؤية أجهزة واجهة الدماغ والحاسوب وهي تمنح قدرة تعبير حرة وطبيعية لمن فقدوها كليًا، أمر يحمل كثيرًا من الأمل. إننا فعلاً أمام بداية مرحلة جديدة يعدُ فيها الدماغ نفسه الوسيط الحقيقي بين الفكرة والكلمة، بصرف النظر عن عوائق المرض أو الإعاقة.

ذو صلة

ولا يزال العمل جارياً لنقل هذه الابتكارات من المختبرات إلى حياة الناس اليومية، وتحيطها تساؤلات أخلاقية وتقنية تستحق المتابعة والتطوير الدؤوب.

باختصار، نحن نعيش عصر ثورة حقيقية في علوم الأعصاب والذكاء الاصطناعي، حيث تقف الأفكار على عتبة أن تكون صوتاً مسموعاً لا مجرد سر في الصدور، لتعيد الأمل في تواصل إنساني بلا حدود.

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة