من الرياضيات إلى الذكاء الاصطناعي: 50 عامًا من سحر الفراكتلات
3 د
الفركتلات، بأنماطها الجذابة، تمثل النظام وسط الفوضى وتغير فهمنا للهندسة.
تكمن الفركتلات في تفاصيل الطبيعة مثل الأغصان والسحب والجبال.
استخدمت الفركتلات في الهندسة لعلاقات تفرعية مماثلة في الدماغ البشري والتقنية الطبية.
تحقق الفركتلات تقدمًا في الذكاء الاصطناعي عبر تصاميم مشابهة للدماغ البشري.
تمثل الفركتلات جسرًا بين الفن، العلوم والتكنولوجيا، مقدمةً آفاقًا جديدة للاكتشاف.
إذا كنت قد تأملت يوماً شكل ندفة الثلج أو نظرت إلى تعرجات الجبال والسُحب، فربما اقتربت من عالم الفركتلات الساحر دون أن تدري. قبل خمسين عاماً فقط، لم يكن مصطلح "فركتل" مألوفاً حتى ظهر العالم الفرنسي البولندي بينوا مانديليبرو، ليمنح تلك الأشكال الغامضة اسماً وهُوية جديدة مكّنت العلماء من قياسها وتحليلها، ناقلاً بذلك الرياضيات إلى أفق غير مسبوق من الدهشة.
معنى الفركتل والنظام وسط الفوضى
في عام 1975، اقترح مانديليبرو كلمة "فركتل" (Fractal) المأخوذة من الكلمة اللاتينية "فرَكتوس" التي تعني "مكسور"، ليصف بها أنماطاً هندسية معقدة اعتبرها كثيرون من قبل أطرافاً مُهملة خارج قواعد الهندسة الكلاسيكية. الجديد هنا أن مانديليبرو لم يصفها فقط، بل وضع لها معايير رياضية دقيقة لقياسها، وأدخل فكرة "الأبعاد الكسرية" — أي أن شكل الفركتل قد يكون بين بُعدين أو ثلاثة، فتتراوح هندسته بين سطر وستارة وحجم. هذا الابتكار غير حدود فهمنا للأشكال والنماذج في الطبيعة.
ولكي تتضح الفكرة أكثر، لو أخذنا ندفة الثلج أو شكل الشاطئ المتعرج، سنجد أنها أمثلة لما يسمى "التشابه الذاتي"؛ إذ يتكرر نفس النمط كلما اقتربنا أكثر في التفاصيل. كل جزء صغير يشبه الكل، وهذا بالضبط ما يميز الفركتل عن غيره من الأشكال.
من هنا يمكن الانتقال إلى محاور تأثير الفركتلات في العوالم العلمية المختلفة.
الفركتل في قلب الطبيعة والعلوم
اللافت أن الفركتلات ليست مجرد أشكال في دفتر رياضي، بل نجدها في كل مكان: في الأغصان وأوراق الأشجار، في تفرعات الأوعية الدموية داخل أجسامنا، حتى في السحب والجبال. علماء الأحياء يقرّون بأن توزيع الشعيرات الدموية وفق نمط متشعب فركتلي يبطئ تدفق الدم ويوصله بفعالية لكافة أنحاء الجسم، بينما تساعد تعرجات الرئتين الفركتلية على نقل الأكسجين بكفاءة مذهلة. هذا التشابه الذاتي يظهر أيضاً في خلايا سرطانية، ما يعطي الأطباء أداة جديدة لدراسة تطورها.
ومن خلال هذا التشابك بين الهندسة والطبيعة، انتقلت الفكرة سريعاً إلى الرحابة التطبيقية.
امتداد تأثير الفركتلات: من الفن إلى الهندسة والتقنيات الحديثة
لم تتوقف قصة الفركتل عند الرياضيات أو الطب. وجد مهندسو البرمجيات والفنانون والموسيقيون أن خصائص التشابه الذاتي والفوضى المنظمة تمنحهم فرصاً لتطوير تصاميم جديدة أو إنتاج صور نابضة بالحياة. إحدى أشهر هذه الاستخدامات ظهرت في تقنيات ضغط الصور الرقمية، حيث استلهم العلماء أشكال الفركتل لتقليل حجم الملفات دون فقدان التفاصيل؛ حتى أن شركة مايكروسوفت لجأت لهذا الابتكار مطلع التسعينيات. كما صُممت هوائيات لاسلكية ذات بنية فركتلية كي تعمل بكفاءة على ترددات عديدة وهي تحتل مساحات صغيرة للغاية.
ومع تجذر الفركتلات في التكنولوجيا، بدأ البعض يتساءل عن إمكانية توظيف هذا النهج في الذكاء الاصطناعي.
الربط بين الفركتلات وتطور الذكاء الاصطناعي
يثق عدد من العلماء في أن الدماغ البشري ذاته مبني على تشعبات فركتلية، من حيث تفرعات الخلايا العصبية. إذاً، لن يكون مستغرباً أن تلعب معماريات الفركتل دوراً ريادياً في تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي وبرامجه المستقبلية. الفكرة أن عقل الإنسان ليس شبكة بسيطة، بل نظام معقد من التشابهات الذاتية والتفرعات – فهل تقتدي الحواسيب بذلك للوصول إلى مستوى جديد من "الوعي الصناعي"؟ هذه الأسئلة تشغل الباحثين اليوم وترسم ملامح مستقبل يدمج بين مفاهيم الرياضيات العصية والتكنولوجيا الثورية.
وهكذا نجد الخيط يربط بين اكتشاف في الرياضيات وتطبيقات تمسّ الفن والاقتصاد والطب وأيضاً الذكاء الاصطناعي، معلناً أن أثر الفركتل لم يبقَ في صفحات الكتب.
خاتمة: الفركتل، لغة الطبيعة والهندسة المستقبلية
بينما يواصل الباحثون استكشاف أسرار الفركتلات، يتضح يوماً بعد يوم أنها ليست ظاهرة جمالية فحسب، بل هي وحدة بنيوية أساسية للحياة والابتكار. من الأوعية الدموية إلى مسارات الأسواق المالية، من لوحات جاكسون بولوك إلى الألحان الكلاسيكية المعقدة، ومن ضغط الصور الرقمية إلى آفاق الذكاء الصناعي — جميعها تسير على إيقاع "الفوضى المنتظمة" للفركتل. هكذا، تجسد الفركتلات الرابط السري بين التعقيد والنظام، وتدعونا لننظر حولنا بعيون جديدة، بحثاً عن أنماط تتكرر بلا نهاية في الطبيعة والآلة والعقل البشري على حد سواء.
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.