دماغك لا يشيخ… بل يكتسب قوى جديدة حين نُحسن استخدامه

4 د
تشير دراسة جديدة إلى أن بعض مناطق الدماغ تزداد قوة مع العمر.
أظهرت الأبحاث أن القشرة الحسية يمكن أن تصبح أكثر سماكة وقوة بالاستخدام المستمر.
النشاط اليومي والتفاعلات الحسية يعززان صحة الدماغ ويحافظان على قوته.
النيروبلاستيكية تبرز قدرة الدماغ على تشكيل وتعديل الروابط العصبية باستمرار.
التعلم والتجارب الحسية الجديدة تدعم صحة الدماغ وتحسن وظائفه مع الوقت.
حين نفكر في التقدّم في السن، فإن الصور النمطية المنتشرة تدفعنا غالبًا لتوقّع تراجع قدرات الدماغ وضعف وظائفه مع مرور السنوات. لكن دراسة حديثة نشرتها مجلة Nature Neuroscience تقلب هذه الفكرة رأسًا على عقب، لتبيّن أن بعض مناطق الدماغ قد تزداد قوة مع العمر بدلًا من أن تتدهور.
في هذه الدراسة، قام فريق من علماء الأعصاب في ألمانيا بفحص أدمغة البشر والفئران باستخدام تقنيات تصوير دقيقة للغاية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI). ركزوا أبحاثهم على القشرة الحسية الجسدية الأساسية، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة المعلومات الحسية مثل اللمس. وهنا كانت المفاجأة: بعض طبقات هذه المنطقة لا تظل فقط مستقرة مع الزمن، بل تزداد سماكة وقوة الاستخدام كلما تقدم العمر. هذا الاكتشاف يكشف عن مرونة دماغية (أو ما يُعرف بالنيروبلاستيكية)، أي قدرة الدماغ على التكيّف وتطوير نفسه رغم التقدم في السن.
هذا الأمر يسلّط الضوء على سؤال جوهري: كيف تتغير طبقات القشرة الدماغية مع تقدّم العمر، وما معنى ذلك لقدرتنا على الإحساس والتفاعل مع العالم من حولنا؟
طبقات القشرة الدماغية: تفاصيل مذهلة عن التغيرات مع الزمن
تكشف الدراسة أن القشرة الحسية الأساسية تعمل تمامًا كطبقات رقيقة متراكبة أشبه بفطائر الكريب، ولكل طبقة دورها الخاص ومعمارها الفريد. عند مقارنة أدمغة المشاركين صغار السن بكبار السن، تبين أن بعض الطبقات – خاصة الوسطى والعليا – تصبح أكثر سماكة عند الكبار، بينما أن الطبقات السفلية هي التي تضعف وتصبح أنحف.
ولإيضاح هذه النتائج، بيّن الباحثون أن الطبقة الوسطى تستقبل المنبهات الحسية بشكل مباشر، بينما تتولى الطبقات العليا معالجة وتنسيق تلك الإشارات، كتمييز الفروق الدقيقة بين الأصابع حين نمسك بأشياء مختلفة. هذه المسؤولية المتواصلة تجعلها نشطة باستمرار، وبالتالي قد تعزز بنية الطبقات وسمكها بفعل الاستخدام المكثف. أما الطبقات السفلية، والتي تلعب دور الفلتر أو المعدّل للإحساس بحسب السياق (كأن تتجاهل شعورك بملابسك معظم الوقت)، فيتراجع نشاطها مع تقدّم السن مما يؤدي لتناقص سمكها.
وهذا يقودنا مباشرة لفكرة أن الدماغ يهتم بالمناطق التي نُجبره على استعمالها بشكل متكرر، ويحافظ عليها ويطورها بتأثير مستمر للنشاط اليومي والتفاعلات المحيطة.
من خلال هذه النتائج، يظهر لنا مفهوم النيروبلاستيكية بوضوح – أي قدرة الدماغ الهائلة على تشكيل وتعديل الروابط عصبية وفق الحاجة أو كثافة الاستخدام، مما يبشّر بإمكان استمرار التعلم وتطور الإمكانيات الذهنية حتى في مراحل متقدمة من الحياة. ولتعزيز هذا الرابط مع الواقع اليومي، يشير الباحثون إلى أن الأنشطة اليومية التي تتضمن تفاعلات حسية أو استخدام اليدين بكثرة من شأنها الحفاظ على قوة طبقات القشرة الدماغية، وربما حتى تعزيزها مع الزمن.
الدماغ يتأقلم باستمرار: "استخدمه أو ستخسره!
وهنا تبرز العلاقة المباشرة بين مدى استخدامك لمهاراتك الحسية والنتائج الفعلية على أجزاء دماغك المسؤولة عن تلك المهارات. الدراسة تشير إلى أنه مع الاستخدام المتكرر والمستمر، تبقى الطبقات الوسطى والعليا فعالة وقوية وحتى أكثر سماكة مع تقدم العمر، بينما تتراجع الطبقات الأقل استخدامًا.
ورغم أن الطبقات السفلية تصبح أنحف، إلا أن هناك دلائل على أن آليات التعويض الذاتي تدخل حيز التنفيذ، حيث يتم زيادة كمية مادة الميالين، وهي مادة عازلة للخلايا العصبية، مما قد يساعد في استمرار الأداء الوظيفي لتلك الطبقات رغم فقدان بعض الخلايا.
استيعاب هذه الآلية يمنحنا دروسًا مهمة: التحفيز اليومي، التحديات الذهنية، والتجارب الحسية الجديدة كلها عناصر تساهم في صيانة صحة الدماغ. بمعنى آخر، كلما أبقيت دماغك قيد الاستعمال النشط، زادت فرص تحسين بعض قدراته أو حمايتها من التدهور السريع.
وهذا يربط نتائج هذه الدراسة باتجاهات بحثية حديثة تدعو الناس لمواصلة التعلم والتجربة – ليس فقط لصالح صحة المخ، بل كعامل مؤثر في شيخوختهم ونوعية حياتهم.
خلاصة القول، يبدو أن صورة التدهور الحتمي للدماغ مع التقدم في العمر لم تعد صورة دقيقة بالكامل. بدلاً من ذلك، يظهر أن الدماغ يحتفظ بقدرة رائعة على التكيّف وإعادة البناء حتى في المراحل المتقدمة من الحياة، خاصة في المناطق التي نستمر في تنشيطها. لذا، لا عجب في أن العلماء يحبذون تشجيع ممارسة النشاط الذهني والحسي المتواصل، لأنه على ما يبدو، كلما استخدمت دماغك أكثر… كلما أصبح أقوى!
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.




