ذكاء اصطناعي

غولدين: ذهب بسُمك ذرة واحدة… لكن أقوى من الفولاذ

ملاذ المدني
ملاذ المدني

4 د

يعكس إنجاز "غولدين" تحولاً علميًا باستخدام الذهب بسمك ذرة واحدة يمكن رؤيته تحت المجهر.

تزايد الاهتمام بتقليص المواد لأبعاد ثنائية يعزز الخصائص مثل السلوك الكهربائي والتفاعل الكيميائي.

قام العلماء بإنتاج صفيحة ذهبية حرة باستخدام محلول كيميائي وتثبيتها بجزيئات لرقتها.

تطبيقات المادة تشمل التحفيز الصناعي، الإلكترونيات، والعلاج الطبي بتكلفة بيئية منخفضة.

"غولدين" يمثل تطوراً نوعياً لمواد ذكية تعزز الابتكار العلمي نحو مستقبل تكنولوجي متقدم.

تخيل عالماً تصبح فيه قطعة من الذهب أرق من أن تراها العين المجردة، بسمك ذرة واحدة فقط! هذا ليس وصفاً من أفلام الخيال العلمي، بل هو الواقع الجديد الذي أعلنه مؤخراً فريق من العلماء بإنتاجهم أول "ورقة ذهبية" نانوية فائقة الرقة أسموها "غولدين" Goldene، في إنجاز ثوري يُقارن بولادة "الغرافين" الشهير — المادة التي غيّرت مفاهيم الإلكترونيات.


طبقة ذهبية بخصائص مذهلة

في البداية قد يتساءل القارئ: لماذا هذا الاهتمام بتحويل الذهب إلى صفائح بسمك ذرة واحدة؟ الحقيقة أن تقليص المواد إلى الأبعاد الثنائية (ثنائية الأبعاد) لا يغيّر مظهرها فقط، بل يؤدي لتغيرات جذرية في الخصائص مثل السلوك الكهربائي، والتفاعل مع الضوء، وحتى في الكيفية التي تتفاعل بها أسطحها مع بيئتها — وهي صفات حيوية لأي مادة خارقة.

ذهب فريق البحث إلى ما هو أبعد من الأفلام والمسلسلات عندما نجحوا، لأول مرة، في صناعة صفيحة ذهبية "حرة" ليست مدعومة على حامل بل تطفو بذاتها، وهذا بعكس التجارب السابقة التي اقتصرت على أفلام رقيقة جداً فوق أسطح داعمة.

وهذا يربط أبحاث الذهبين حالياً بطفرة مواد الغرافين، حيث مثل إنتاج صفائح نانوية منه لحظة فارقة في تكنولوجيا المواد وأدى إلى توقعات هائلة مستقبلاً.


من بلورات مُركبة إلى "غولدين" مستقل: رحلة ابتكار معقدة

تعود بداية التجربة إلى خلق بلورة مركبة تُعرف باسم "طور ماكس" MAX phase، وهي تشبه إلى حد كبير رقائق الخشب بطبقاتها المتكررة. عمد العلماء أولاً إلى استعمال بلورة من "ثلاثي التيتانيوم سيليكون كربيد" (Ti₃SiC₂) قاموا بترسيب طبقة ذهبية عليها، ثم تسخين المركب إلى حرارة عالية تفوق 670 درجة مئوية. أتاح ذلك للذرات الذهبية أن تحل محل ذرات السيليكون، لتتشكل بلورة جديدة Ti₃AuC₂، بحيث يحتجز الذهب على شكل صفائح ذَرِّية رقيقة جداً بين طبقات المركب.

في المحاولات الأولى كان الذهب محاصراً تماماً داخل البلورة، مما جعل فكرة الحصول على طبقة ذهبية حرة أمراً صعب المنال. وهنا جاءت نقطة التحول: استخدم الفريق محلولاً كيميائياً يسمى "كاشف موراكامي" Murakami’s reagent، معروف بقدرته على إذابة التيتانيوم والكربون دون التأثير على الذهب. وبعد ذلك جرى تطويق الذهب بجزيئات عضوية خاصة (مواد خافضة للتوتر السطحي كـ CTAB و السيستين)، عملت كحُرَّاس تمنع الطبقة من الانطواء أو التشوه أثناء عملية الحفر.

وفي ظل هذه الظروف الدقيقة جداً، بتركيز منخفض من المحلول، وبعناية فائقة لتجنب سوء التفاعل أو تحطم البنية، نجح الفريق أخيراً في عزل شرائح "غولدين" حرة ورفيعة، يبلغ حجمها في المتوسط عشرات النانومترات (حوالي جزء من مليون من المليمتر).

ويكشف هذا الإنجاز كيف تلعب التفاصيل الدقيقة، بدءاً من نوع المادة الحافزة على سطح الذهب، إلى بعد المسافة بين طبقات الذهب في البلورة الأصلية، دوراً جوهرياً في استقرار الصفائح النانوية ومنعها من الانهيار أو التجمع.


الخواص الإلكترونية الفريدة وسبل التوظيف العملي

وتظهر تحت المجهر الإلكتروني صفائح "غولدين" على شكل طبقات ذهبية حقيقية بسُمك ذرة واحدة فقط، مع تباعد مختصر بين الذرات بنسبة تصل إلى 9% مقارنة بالذهب المعتاد. يعني هذا أن الترابط بين الذرات يصبح أقوى وأكثر ثباتاً بمحاذاة الظروف الجديدة ثنائية الأبعاد.

وفي سياق متصل، بينت دراسات حيود الأشعة السينية وطيف الإلكترون وجود تغير في طاقة الارتباط الإلكتروني للذهبين مقارنة بالذهب التقليدي، وهي علامة واضحة على اختلاف البيئة الإلكترونية المحيطة بالذرات.

أما عن التطبيقات المستقبلية، فهنا تبرز إمكانيات مذهلة؛ فزيادة مساحة السطح المكشوف مقارنةً بحجم المادة تساعد في تعزيز التفاعلات الكيميائية، وهو مفيد في مجالات التحفيز الصناعي، والإلكترونيات، وحتى في الطب — كعلاج الأورام بالاستهداف الحراري. كما أن القدرة على استخدام كمية أقل من الذهب لتحقيق نفس التأثير يفتح الباب أمام خفض التكاليف وتقليل الأثر البيئي المرتبط باستخراجه وتكريره.

وبالتالي، فإن هذا الإنجاز في مجال المواد الذكية يمثل تقدماً نوعياً يبشر بمواد إلكترونية وضوئية وتقنية جديدة قد تغير قواعد اللعبة في عالم الابتكار.


في الختام: مادة خارقة من قلب الذرة إلى قلب المختبر

من الواضح اليوم أن "غولدين" ليست مجرد إنجاز أكاديمي، بل بوابة نحو جيل جديد من المواد المتقدمة فائقة الأداء. عمليات الحفر الدقيقة والتحكم الكيميائي المعقد، بالإضافة إلى الابتكار في استخدام المواد المرافقة والمثبتة، مهدت الطريق لصناعة أول طبقة ذهبية حرة في التاريخ. مع توفر "غولدين" أخيراً، صار ممكناً التفكير بتطبيقات لم يكن من الممكن تصورها مع الذهب التقليدي، بداية من تكنولوجيا الحساسات المتقدمة، مروراً بالطاقة الشمسية، وحتى وصولاً للعلاجات الطبية الذكية.

ذو صلة

يظل السؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن أن تقودنا هذه المادة الخارقة في مستقبل تكنولوجيا المواد؟ يبدو أن "غولدين" ستبقى محط نظر الباحثين لعقود مقبلة، وهي تفتح الباب بالفعل أمام عهد جديد من الابتكار العلمي، حيث الذهب لم يعد فقط معدن الرفاهية، بل أصبح أيضاً رمزاً للثورة الذرية.

---

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة