ليس عشوائيًا… العلماء يكتشفون خوارزمية خفية وراء التطور

3 د
الدراسة الجديدة تثبت أن التطور البيولوجي ليس عشوائيًا ويمكن التنبؤ به.
استخدم العلماء خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل جينومات البكتيريا والتوصل لنتائج دقيقة.
النتائج تؤكد أن بعض الجينات تظهر سويًا بسبب وظائف مترابطة أو تفاعلات معقدة.
يمكن توظيف التوقع الجيني للتحكم في مخاطر مقاومة المضادات الحيوية في التطبيقات الطبية.
هذه الأبحاث تفتح فرصًا جديدة في الهندسة الوراثية والتقنيات الحيوية المتقدمة.
هل سبق لك أن تخيلت أن سيرورة التطوّر في الكائنات الحية ليست مجرد لعبة حظ وتحولات جينية عشوائية؟ لعقود طويلة، كانت النظرة الغالبة أن الطفرات الوراثية تحدث بلا تخطيط، وأن الانتقاء الطبيعي وحده يقرر أي الكائنات تبقى وأيها تندثر. لكنَّ دراسة جديدة قلبت هذه الصورة القديمة رأسًا على عقب، مقدمة مفهوماً جديداً يقول إن للتطور نمطه ومساراته المتوقعة، إلى حد يمكن فيه التنبؤ بالتغييرات الوراثية المستقبلية.
هذه الدراسة، الصادرة عن فريق علمي بقيادة البروفيسور جيمس مكإنرني والدكتور آلان بيفان من جامعة نوتنغهام، ومعهم الدكتورة ماريا دومينغو-سانانيس من جامعة نوتنغهام ترنت، أشعلت نقاشًا واسع المدى في الوسط العلمي. يصف البروفيسور مكإنرني نتائج البحث بأنها "ثورية بكل المقاييس"، قائلًا إن ما توصلوا إليه يفتح أمام علماء البيولوجيا وعلم الجينات والمجالات الطبية آفاقاً جديدة لم يكن يُظن أنها ممكنة بهذا الوضوح في السابق.
ما ربط بين هذه الرؤية الحديثة وموضوع التطور هو التركيز على البكتيريا، وتحديدًا بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli). في البكتيريا – كما اتضح – يوجد نوعان من الجينات: جينات أساسية يشترك فيها جميع أفراد النوع، وجينات إضافية (تسمى الجينات الإضافية أو الملحقة) تختلف من سلالة لأخرى. المجموعة الكاملة من هذه الجينات تُعرف باسم "البانجُينوم"، وهو مصطلح يُشير لكل ما يمكن أن تحمله سلالة بكتيرية من مواد وراثية.
كيف جعل الذكاء الاصطناعي توقعاتنا أكثر دقة؟
ليس ذلك فحسب، بل لجأ الباحثون إلى تقنيات متقدمة في تعلم الآلة – وتحديدًا خوارزمية تدعى "الغابة العشوائية" (Random Forest) – لتحليل آلاف جينومات الإشريكية القولونية. درسوا أنماط الحضور والغياب للجينات الإضافية لدى كل سلالة، ليبنوا مصفوفة ضخمة تعكس العلاقات بين الجينات المتنوعة. والنتيجة كانت مذهلة: يستطيع النموذج الذي دربوه التنبؤ على نحو دقيق إلى حد كبير بوجود بعض الجينات في السلالة استنادًا إلى وجود جينات أخرى معها.
هذا التماسك في توزيع الجينات يكشف عن أن بعض الجينات "تميل" للظهور سويًا، وربما لأنها تؤدي وظائف مترابطة أو متكاملة. في المقابل، هناك جينات تبدو وكأنها تتجنب بعضها البعض – أي إذا وجدت واحدة غابت الأخرى غالبًا – وكأن بينهما تنافر أو تداخل وظيفي. إذًا، ليست المسألة عبثية تمامًا: بل هي نتاج تفاعلات معقدة بين الجينات تحت ضغوط الانتقاء الطبيعي، وهنا تكمن التنبؤية في التطور.
انتقالًا إلى أفق التطبيق العملي للمعلومة، فإن معرفة هذه الأنماط لها قيمة عظيمة في ميادين مختلفة. على سبيل المثال، عندما تبحث فرق المراقبة الطبية عن جينات مقاومة المضادات الحيوية في المزارع البكتيرية، يمكنهم الآن فحص مجموعة من الجينات المساندة المرافقة للجين الرئيسي. هذا يتيح لهم تعقب المخاطر قبل أن تظهر المقاومة ذاتها بكثرة، وهو أمر قد يحدث فارقًا كبيرًا في احتواء انتشار عدوى خطيرة مبكرًا.
المستقبل تحت المجهر: كيف سيغير هذا الفهم من أدواتنا الطبية؟
ومن زاوية أخرى، فإن هذه النتائج تهم دراسة البيولوجيا التطبيقية؛ حيث تعمل فرق من المختصين على هندسة سلالات بكتيرية قادرة على إنتاج أدوية جديدة، أو هضم النفايات، أو حتى تنظيف التلوث البيئي. الآن، ومع فهم أن بعض الجينات تتعاون وربما تتنافر، يمكن تصميم توليفات جينية ناجحة بسرعة أكبر وبدون الكثير من التجريب.
هذه الفكرة مدعمة بملاحظة غاية في الأهمية: أن وجود أو غياب بعض الجينات مترابط عبر فروع شجرة العائلة البكتيرية جميعها، وليس في خط واحد فقط – مما يدحض فرضية أن تلك الأنماط مجرد انعكاس للوراثة السلفية، ويعزز دور الاصطفاء وتفاعلات الجينات في صنع النتيجة النهائية.
مرورًا بهذه المنظومة المتكاملة، يتضح أن التطور البيولوجي ليس كما تخيلناه دومًا. فهو يحتفظ بمفاجآته، لكن تحليله الدقيق يُظهر لنا "بصمات" واضحة يمكن قراءتها وتوقع جزء من مسارها المستقبلي.
في الختام، هذه الرؤية الجديدة تفتح أبوابًا للاستفادة في التشخيص الطبي، ومراقبة الصحة العامة، والهندسة الوراثية المتقدمة. فالعشوائية في التطور لم تعد سيّدة الموقف كما كنا نظن – بل هناك انتظام وتكرار وأنماط أعمق، بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يكشفها ويحولها لأدوات عملية تدفع البحث والعلاج والتقنية إلى مستويات غير مسبوقة.
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.