ذكاء اصطناعي

جمجمة بيترالونا تكشف عن سلالة بشرية بدائية عمرها 286 ألف سنة

ملاذ المدني
ملاذ المدني

4 د

تم الكشف عن جمجمة كهف بتيرالونا في اليونان عام 1960 ومازالت تثير الفضول العلمي.

يؤكد البحث الجديد أن عمر الجمجمة يزيد عن 286 ألف عام بأسلوب تأريخ اليورانيوم.

تبين أنها لا تنتمي للنياندرتال أو البشر المعاصرين بل لسلالة بدائية من أوروبا.

يكشف عن تعايش جماعات بشرية متعددة وتنوع أكبر في السكان الأوروبيين القدماء.

لطالما أثارت جمجمة كهف بتيرالونا في اليونان فضول العلماء والناس على حدّ سواء، حتى أصبحت أشبه بلغزٍ حقيقي في علم الحفريات. اليوم يعود هذا الاكتشاف الأثري ليشعل الجدل من جديد، بعدما تمكن فريق بحث دولي من تحديد عمر أدنى للجمجمة تجاوز 286 ألف عام، في واحدة من أعمق وأدق الدراسات حول أصول الإنسان الأول في أوروبا.


ماذا نعرف عن جمجمة بتيرالونا؟

عُثر على هذه الجمجمة شبه الكاملة لأول مرة عام 1960 في كهف بتيرالونا شمال اليونان، ومنذ ذلك الحين شغل مكانها في دائرة النقاشات العلمية حول منبع الإنسان الأوروبي. فبينما يظهر بوضوح انتماؤها إلى جنس الإنسان (Homo)، إلا أنها لا تشبه لا إنسان نياندرتال ولا البشر المعاصرين. هنا يبرز الغموض: ما هو أصل هذه الجمجمة؟ ولماذا يصعب نسبها لأي من سلالاتنا المعروفة؟

لم تكن معضلة الشكل وحدها المحور؛ بل تعاظم الجدال حول عمر الأحفورة نفسها، إذ تراوحت تقديرات الدراسات السابقة بين 170 ألف و700 ألف سنة، مما زاد من تشويش الأجوبة حول موقعها في شجرة التطور البشري. ومن هذا المدخل، استمر البحث العلمي بقيادة معهد علم الإنسان القديم (Institut de Paléontologie Humaine) لينهي عقوداً من التقديرات المتباينة.

وبالانتقال إلى الطرق العلمية المتقدمة، استخدم الباحثون تقنية تعرف بـ"التأريخ التسلسلي بواسطة اليورانيوم" (U-series dating)، ليتسنى لهم تحديد متى بدأ الغلاف الكلسي (الكالسيتي) الذي يغطي الجمجمة في التكوّن. تعتمد هذه التقنية على تفكك اليورانيوم وتحوله إلى ثوريوم بوتيرة معروفة، مما يسمح بتحديد العمر بناءً على نسب النظائر المتبقية - أداة قوية وموثوقة خاصة في بيئة الكهوف حيث تترسّب المعادن على مدى آلاف السنين.


كيف تمكن العلماء من مواجهة التحدي؟

لعلك تتساءل: ما المختلف هنا عن محاولات سابقة؟ في البيئة المفتوحة كتربة الأرض مثلاً، يصعب تطبيق تقنية تأريخ اليورانيوم-الثوريوم بسبب اختلاط الرواسب وتداخل فترات الترسيب، أما في الكهوف، فالظروف تسمح بعزل طبقات الكلس بدقة. فحين تعبر المياه الجوفية الصخور، تحمل معها ذرات اليورانيوم وتترك الثوريوم وراءها، وحين تتبخر هذه المياه على جدران الكهف، ترسّب طبقة جديدة غنية باليورانيوم. بمرور الأعوام، تبدأ ذرات اليورانيوم بالتحلل إلى ثوريوم، وينغلق النظام كيميائياً، ليستطيع العلماء أن يحسبوا الزمن منذ بدأ الترسيب.

وقد جمعت عينات من طبقات الكلس فوق الجمجمة وأماكن أخرى في الكهف، ومنها غرفة المَقْبرة التي كانت الأحفورة مثبتة بجدارها، بالإضافة إلى الممرات والقاعات المجاورة. كشفت النتائج أن أقدم قشرة كلسية فوق الجمجمة يعود عمرها الأدنى إلى حوالي 286,000 سنة (مع هامش خطأ قدره 9,000 سنة). وهذا يعني أن الجمجمة كانت في مكانها قبل نشوء هذه الطبقة بوقتٍ طويل ربما، وإذا افترضنا أن الجمجمة بقيت جافة لفترة قبل تغطيتها، فقد يكون عمرها الفعلي أقدم من ذلك.

ومن هنا يمكن الانتقال لمناقشة النتائج من بقية أقسام الكهف، حيث أظهرت تحاليل الطبقة الكلسية على جدران المَقْبرة أعماراً ربما تصل إلى 510 ألف سنة عند القمة، وحتى أكثر من 650 ألف سنة في الداخل، بينما لم تظهر قاع الممرات أي ترسيب أقدم من 410 ألف سنة. هذه التفاصيل فتحت الباب لإعادة هيكلة تسلسل الأحداث جيولوجياً وزمنياً داخل الكهف، ورسم صورة أوضح عن تاريخ الجمجمة وعلاقتها ببقية المعثورات.


موقع الجمجمة في شجرة تطور الإنسان

من خلال هذه النتائج، توصل الفريق العلمي إلى أن إنسان بتيرالونا ليس سلفاً مباشراً للإنسان الحديث "هومو سابينس"، ولا ينتمي لسلالة النياندرتال، بل أقرب إلى مجموعة بدائية وسلالة متميزة سكنت أوروبا خلال العصر الجليدي الأوسط (البليستوسين الأوسط). يشير هذا إلى تنوع أكبر بكثير في سكان أوروبا القدماء، مع وجود مجموعات شقيقة لأنواع البشر الأخرى وقد عاصرت بعضها بعضاً. ونحن إذ نقارن اكتشاف بتيرالونا بمواقع أحفورية أخرى لعظام بشرية من عصور ما قبل النياندرتال، يزداد وضوح المشهد حول بزوغ وتعايش سلالات بشرية متعددة، كل منها تطورت واختفت تاركة آثارها في رواسب الكهوف وألغازها.

وهكذا يتضح أن حكاية الإنسان الأوروبي ليست خطاً مستقيماً من نوع واحد، بل فسيفساء معقدة شهدت تفرعات واضمحلالات ولقاءات بين جماعات بشرية عديدة عبر عشرات آلاف السنين. وهذا يعكس عمق التعقيد في دراسة الهجرات البشرية والأصول الجينية والتغيرات المناخية التي شكّلت مصائر تلك السلالات القديمة.

تثبت هذه الدراسة التي نشرت في مجلة "Journal of Human Evolution" أن لكل ترسيب في كهوف العالم أسرار مخفية، وأن الانضباط في استقراء التفاصيل الجيولوجية يمكنه قلب المفاهيم حول تطور الإنسان وتوزعه في أوروبا. ومع كل أحفورة جديدة تتولد أسئلة أعمق، تبقى جمجمة بتيرالونا نافذة مفتوحة على فصل بالغ الأهمية في قصة البشر قبل التاريخ.

ذو صلة

ختاماً، يقرّ العلماء بأن اكتشافهم هو خطوة فقط نحو فهم أشمل لأصول الإنسان الأوروبي، ومفتاح لإعادة رسم العلاقة بين الإنسان العاقل والنياندرتال وأسلاف آخرين من "الهومينين". وبينما تكشف المختبرات وتكنولوجيات التأريخ الحديثة جوانب خفية من الماضي، يبقى الفضول العلمي هو الوقود الدائم لمواصلة التنقيب عن بداياتنا الغامضة.

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة