مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

بحرُ غزّة الذي أحب

تدوينة: غدير ماهر

بعمر العاشرة، كنت أذهب مرة أسبوعياً إلى مستشفى الأطفال في حي النصر في مدينة غزة. كنا نأخذ سيارة “تاكسي” أنا وأمي منطلقين من وسط قطاع غزة إلى غربه عبر طريق واحدة في ذلك الوقت تربط وسط غزة بغربها وهي الطريق الساحلية لشاطئ البحر المتوسط.

في كل مرة كنت أركض للسيارة لأكون بجانب النافذة المُطلة على البحر، مجرد ما أن تقترب السيارة من الشارع الساحلي، أرى زُرقة البحر الشاسع وأشعة الشمس الذهبية عليه التي تعطي المياه لمعة، تلك اللحظة كانت تُسحرني دائماً وأشعر بقلبي يقع بين يداي، وهكذا بكل مرة كنت أرى فيها البحر تصيبني دهشة كأنني أراه للمرة الأولى في حياتي.

أحبُ البحر كثيراً، وطوال حياتي كوّنت ذكريات كثيرة تدور حول البحر، كأنني كنت سمكة تعيش في البحر وبخطأ ما انتقلتُ للعيش على اليابسة. ترتبط ذكريات طفولتي بالساحل الأزرق الذي يحتضن مدينة غزّة، أجملها في ذاكرتي هي رحلاتنا للبحر مع أبي بسيارتنا الصغيرة ونحن نستمع لأغاني عمرو دياب. ضلت تربطني بالبحر علاقة حب حتى عندما ضاعت دميتي المفضلة على شاطئه.

لا أعتقد أنني الوحيدة من قطاع غزة التي تربطها علاقة خاصة بالبحر، جميعنا في غزّة نحب ذلك البحر الأزرق، لربما لأنه المنفس الوحيد لأكثر من مليون ونصف مليون نسمة محاصرين منذ أكثر من عقد من الزمن. أو ربما لأنه الشيء الوحيد الثابت الذي لم يتغير في مدينة غزّة التي تغيرت معالمها خلال ثلاثة حروب، أو لربما لأنه يعطينا إحساس بالحرية في مدينة تغلق نوافذها في وجه العالم. بالنسبة لي، أحب بحر غزّة هكذا وبلا أي مبررات.

قبل سفري من غزّة إلى لبنان في عام ٢٠١٨، كان البحر المكان الأخير الذي ودعته في غزّة، المدينة التي أحبها ولكنها رمت لعنتها عليّ لأنني غادرتها. ذهبتُ لزيارة البحر في مدينة بيروت، وعلى وجهي ابتسامة بلهاء أنني سأجد بحر غزّة نفسه أمامي، كيف لا وبيروت وغزّة تتشاركان ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولكنني تفاجئتُ أنه لا يشبه البحر الذي أعرفه، كان هدوءه مستفز وغروبه بطيء ولا هواء يبعثرك ويرتب الأشياء المتناثرة فيك.

مسحتُ ابتسامتي وشعرتُ أن هناك فجوة صغيرة تُفتح في قلبي، عرفتُ حينها أنني فقدتُ البحر الذي أحب، فقدتُ بحر غزّة ربما للأبد، البحر الذي أستطيع سماع صوت أمواجه من فجوة الخيبة الصغيرة في قلبي. حملني الأمل في البحث عن مستقبل بعيداً عن مدينة غزّة التي تنهش أرواح أبناءها إلى الأردن، ولكنني اختنقت في عمّان المدينة العابسة في وجهك لسبب غامض لم أدركه في البداية، ولكن بعد شهرين اعترفت لي أنها حزينة لأنها لا تطل على الساحل. خلال رحلتي في الضياع، قررتُ الذهاب لمدينة ساحلية في وجهتي القادمة، وهكذا ضحكت الحياة في وجهي وأعطتني فرصة الذهاب لدولة عبارة عن جزيرة صغيرة يحيطها البحر من ثلاث جهات هي قطر، كأن الحياة تحاول أن ترمم خيباتي في البحث عن بحر غزّة.

عندما وصلتُ الدوحة، راودني شعور مختلط، كنت فرحة لأنني في مدينة يحيطها البحر من جهات متعددة، ولكن كان هناك شعور دفين في أعماقي يحاول الصعود ولكنني دفنته بيدي للأسفل وأنا أمسح وجهي من العرق بسبب درجة الحرارة المرتفعة جداً. من الطبيعي أن يكون أول شيء أفعله هو زيارة شاطئ البحر في مدينة الدوحة، “الكورنيش” مرتب ونظيف، القوارب الخشبية تتهادى على سطح البحر، ناطحات السحاب في الأفق أمامك تقف متباهية بعبقرية الهندسة المعمارية، كأن هذه المدينة تحاول أكثر من اللازم ولكن الفجوة في قلبي تتسع.

قررتُ أن أعطي هذه الجزيرة الصغيرة فرصة ثانية، فذهبت لزيارة مدينة الوكرة التي تقع على الساحل الشرقي لقطر، عليك أن تعبر سوق الوكرة الشعبي للوصول إلى الشاطئ، كان الضباب يملأ المكان، وجو هادئ جميل تعكسه أضواء المطاعم والمقاهي الصغيرة بجانب الشاطئ، لا أنكر أنني أحببتُ شاطئ الوكرة لربما بسبب الهدوء الذي كان يلف المكان، أو بسبب شعوري بالتعب، أو لسبب غامض أجهله ولكنه لم يغلق الفجوة الصغيرة في قلبي. وهكذا أيقنت وأنا أقف على شاطئ أخر خيباتي أنني لن أجد بحر غزّة، لن أجد مرة أخرى رائحة ولون البحر الذي أعرفه.

قررتُ أن أغلق فجوة قلبي بكومة الذكريات التي أحملها عن ذلك البحر المتمثلة بازدحام الشاطئ صيفاً بأعداد هائلة من سكان قطاع غزّة، الكراسي البلاستيكية على الرمال، بائع الذرة والبرّاد، أصحاب الجِمال يعرضون عليك تجربة ركوب الجمل، أكواب القهوة التي اعتدتُ أن أشربها مع أمي، والكثير من الذكريات التي تجمعني مع بحر غزّة الذي أحبه كثيراً، كأنني ابنته، أفكر فيه كثيراً وأحلم أن أعود إليه دوماً، أحب ذلك البحر كأنه الشيء الوحيد لي في غزّة، أحب بحر غزّة كأن فكرة غزّة كلها تُختصر في بحرها.