مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

ماذا يعني أن تكون مكتئباً؟

تدوينة: محمد الأخرسي

مريض الاكتئاب كالغريق دائمًا ما يحاول التعلق بقشة –ظنًا أنها ستنجيه- تختلف القشة من شخص لآخر، والاكتئاب ليس ضعفًا، فمثلًا لا يمكن أن تقول لشخص مُصاب بـ “شلل” في قدميه أنه ضعيف الإرادة! في السطور التالية أحاول نقل تجربتي مع المرض اللعين (بعدما مررت بمحطته ونزلت فيها كثيرًا) الذي يهشم الأحلام ويأكل الروح قبل الجسد.

يفتح عينين مثقلتين ببقايا نوم أرق، يفزعه ضوء النهار ومفاجآته، عقدة تتصدر جبينه عصية على الكيّ، يغمض عينيه من جديد يستجدي نومًا صعب المنال، يرفس الغطاء عن جسمه، يطمر رأسه تحت مخدة تشكو عذاباتها من توتر أصابعه، يرميها بعنف، يفزّ من فراشه، يجلس على حافته مطرقًا رأسه إلى أسفل.. يضجّ رأسه بآلاف الأسئلة لماذا؟ كيف؟ وإلى متى؟ تعب يعتريه، تسارع في دقات قلبه، ينتصب فجأة، يتوجه نحو المرآة، يبحلق فيها، كشرته تقطع الرزق، يقرأ وجهه، رفع يده ليكسر وجهه، تحدّته المرآة ببرودتها وبلادتها… أنزل يده.

ارتشف من كوب قهوته قليلا… ثم تناول أوراقه وأمسك بقلمه مقررًا أخيرًا أن يكتب كل شيء، علّ من هم حوله يفهمونه ولو لمرة واحدة، طيلة سبع سنين كان يكتم كل شيء في داخله.

ولكن أخيرًا قرر الانفجار، عندما رأى الشيب في رأسه وهو في سن الثلاثين!

عندما ضاقت به الأرض، عندما ضجر من أقاويل الناس الفارغة، رغم أنه ذلك الحليم الذي ليس من عادته الانفجار، فكيف لو أطلق العنان للشياطين التي تسكن بداخله؟!

بدأ بالكتابة وهو يتذكر كيف بدأت قصته مع “الخيانة والألم”، كُلَّ شيء خانه وبادره بطعنة مميتة من الخلف، فتح نافذته طلبًا للهواء… همس لنفسه: إلهي! لماذا اخترتني أن أكون من الأذكياء الذين يخدمون أصحاب الحظوظ ولست من المحظوظين الذين يخدمهم الأذكياء؟ لماذا؟

ربما لأن الدنيا تعطي التافه أكثر من فرصة! ينفث دخان سيجارته ويقذف عقبها مع شحنة همٍّ عبر النافذة، فمع انهيار الصحة النفسية تنهار القيم الأخلاقية وما سلوكه إلا ردّة فعل. سلسلة من الصدمات وخيبات الأمل تحوطه، لم يعد يملك سببا للفرح، بينما كل أسباب الاكتئاب متوفرة فكيف يتصالح مع نفسه وزمانه؟ أوصله هذا السرحان إلى خارج المدينة حيث الأرض خضراء، وأمامه راعٍ يركب حمارًا ويسوق غنمًا، أوقف السيارة، جلس على الأرض، غبط الحمار على بلادته، والراعي على بساطته، والقطيع على استسلامه للموت الربيعي القادم. وتذكر إحصائية أن ثمانين مليون عربي يرتادون العيادات النفسية، والباقون لا يملكون أجرة الطبيب! صوت في داخله يعلو… تبقى الحياة جميلة!

حسنًا، ترك فنجان قهوته وأغلق النافذة وعاد محاولًا الكتابة، لكن شيئًا ما يوقفه يعدله عن نيته –بالكتابة- يقاوم محاولته لـ “الفضفضة”، خلع إرهاقه مع ملابسه، ووقف تحت زخ دشّ ماء ساخن يريد أن يذيب شحم روحه… ترك الماء ينزلق على جسمه بانسيابية رشيقة وهو مستسلم لقفزات قطراته… دعك رأسه بغيظ علّه يفرغه من محتوياته… ثم خرج معصوراً بمنشفة، مخلفاً وراءه فوضى عارمة.

يكمل انغماسه في عذابات الحياة التي يبدو لزامًا عليه أن يعيشها. يحاول إشغال نفسه جاهدًا بأي عملٍ مضنٍ وشاق، يريد بذلك إنهاك جسده حتى لاينهكه الأسى ولا يعلم أن الشقاء مكتوب. يظلم الليل وتأوي الخليقة إلى مساكنها ويأوي هو في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يهدأ له بال ولا يسكن له عقل ولا تقر له عين، إنما هو في كآبته حزينٌ حزينٌ حزين!

في النهاية لَيْسَ هُناكَ أقوى من هؤلاء المُكتئبون، فهُم يُحاربون كل يوم كمَن يُحارب جيشًا بمُفرده وأكثر.