عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

دفاعاً عن السعادة

عن الذين أحب أن أسميهم بهذا التركيب «الفان غوخيون» نسبةً إلى الرسام الهولندي الشهير الذي قطعَ أذنهُ ورحلَ نحو الربيع مُودّعًا أخيه ثيو برسالة ذائعة الصيت يعرفها الجميع أو سمعوا بها، والذي قبل أن يكون اسمه فينسنت فان غوخ كان وصفه الأبرز مريضًا نفسيًا ومُضطربًا عقليًا -أريدك أن تضع خطين عريضين تحت كلمة مريض- لأن لنا معها وقفات سنناقشها الآن وها هنا.

يتحدث فيكتور هوغو، روائي البؤساء الفرنسي عن معنى أصبح شائعًا جدًا الآن ويصفه بكلمة الـ «مالينخوليا»، وهي حالة السعادة بالحزن… الذين يشعرون باللذة والفرح لأنهم بؤساءٌ تُعساء… الذين تراهم كثيرًا الآن على وسائل التواصل والميديا، وفي المدونات والمكتبات، وهنا وهناك. لو حاكمنا التعريف منطقيًا لفشل فورًا لمخالفته القانون الثاني في عدم التناقض، فالسعادة والحزن لا يجتمعان آنيًا. إلا أن قصد هوغو جاء تحت معنى اجتماعي نفسي وليس فكري مُجرد، فهو صحيح وواقعي لا سيما الآن. فالشاب المعاصر تجده سعيد لأنه يتألم، والفتاة مُبتهجة كونها تشعر بالحزن والأسى.

مُبررات الاستمرار في العيش رغم تكدّس الهموم في أوردة الأيام هي السبب الرئيس في رأيي لهذه المالينخوليا. فهل هناك احتمال لاشتداد الحالة بشكل مفاجئ؟ أزمة قلبية قد تحدث؟ نوبة حادة سريعة من الضعف قد تدفع أحدهم لقطع أذنه وإطلاق النار على نفسه راحلًا للربيع؟ نعم. وارد جدًا.

مِن هذه المُبررات الشائعة التي أراها حاليًا للاستمرار في الحياة تحت لواء المالينخوليا هي السعادة المُبطنة بالحزن تحت عباءة الذكاء والتميز. نعم، هو يضحك على نفسه وهي تضحك على نفسها. «أنا ذكية! أنا ذكي! لذلك أنا كئيبة وبعيدة عن الناس وبلا أي أحد حولي». هل شعرت كيف تمت صناعة وتخليق معنى هنا؟ لا بد أن السبب هو الذكاء والفرادة، لا يعقل غير ذلك، لذلك أنا وحيد لذلك أنا كئيبة.

ماذا إن اقترحت عليكم شيئًا آخر؟ ماذا لو كنتِ لستِ مُتفرّدة ولا ذكية، ماذا لو كنت مريضة نفسيًا ومضربة عقليًا؟ أليس من المعروف أن الذكاء يأتي مُترافقًا مع هامش عالي لاحتمالات أخرى وليس الجزم القطعي. فماذا لو؟ وماذا لو؟

إن افترضنا أن كلامك صحيح، لماذا تفعلين هذا؟ لماذا تفعل كل ذلك؟ لماذا يحاول الجميع اسقاط مفاهيم خارجية – تلعب ثقافة السينما دورًا مركزيًا بها – ويضمّنها ضمن شخصيته، في محاولة يمكن تسميتها بـ «استيراد البؤس»؟

هل لأن الأمر يُعطيك مُبرر كي تعيش. تماماً كالإنسان المتفوّق في جماله أكثر من الآخرين، أو المتعالي في تديّنه على من حوله. النابغة في دراسته وسط البلهاء. صاحب العلاقات الوطيدة بين المستوحدين. كلها مُبررات، كلها دوافع. والاكتئاب والتعاسة ليس استثناءً هنا. فهي تعطيك معنى كي تستمر، ولكن على حساب اعتقالك في فقاعة وهم مِن الفرادة والذكاء، قد يشك مَن حولك في وجودها حتى.

أنا سعيد لأني حزين. لأني أعتقد أني أفضل مِن الآخرين ومُتفرّد عنهم. فضريبة ذلك لي كانت تعاستي، لذلك يجب أن أسعد بها. هل ترى كيف يُعطيك هذا دافع للاستمرار؟ لكي تستيقظ يومًا آخر وتواصل ليس إلا!

ذكرت كلمة الاكتئاب هنا ولا بد مِن الوقوف عندها. يُعتبر الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية عمومًا ذات طيف واسع ومطاطي جدًا. هناك مَشرب كامل يُنادي بإلغاء مفهوم «طب النفس وأمراضه» باعتباره غير قابل للتحديد والفحص الدقيق. طب الأعصاب يعتمد على الجهاز العصبي. طب العيون يعتمد على فحص العيون. طب القلب يعتمد على القلب وجهاز الدوران. هاك السؤال الصعب الآن: طب النفس يعتمد على النفس. لكن ما هي النفس أساسًا؟ هل يمكنك تعريف النفس؟

أصحاب هذا المَنحى يعتبرون اقصائيين جدًا، إلا أن في رأيهم جزء من الصواب، ولعل هذا ما دفعهم لذاك المسار الحازم.

الأمراض النفسية أمراض رمادية التشخيص لذلك يصعب ضبطها، فمثلًا المرجع الطبي في الأمراض النفسية DSM، يصف مرض الاكتئاب – سنأخذه مثالًا هنا كونه الأشهر – بأنه يحتاج في تشخيصه فترة تقدر بأسبوعين على الأقل مِن الحزن الحاد غير المُبرر – دقق على كلمة غير مُبرر – وبشكل مُتكرر وعلى مدى طويل. بالإضافة لأعراض أخرى شالة للجسم، كصعوبة حادة في القدرة على النوم، وشبه انقطاع في الشهية للطعام.

أما أن يكون الاكتئاب مُستثارًا بفعل ظروف ومُهيجات فهذا ليس مرض يا أعزائي. هذا تغير في المزاج. «وضع فلان لي أضحكني على صورتي الشخصية». «حذفت فلانة صداقتي» وما إلى هنالك، هذه أمور تثير تغير مزاجي وليس اكتئاب. تنبع أعراض الاكتئاب مِن الداخل بسبب خلل في بيولوجيا الدماغ نفسه، ولا تستقطب من الخارج بفعل المحفزات، إلا بشكل ضئيل جدًا.

غير ذلك هو دلال ومزاجيّة ليس إلا.

مع كل هذا، ترى «الفان غوخيون» ينتظرون أبسط علامة للأسى والحزن كي يلتقطوها مُتخذين إياها مُبررًا لسعادتهم المُبطّنة. لأن هذا الحزن يُقدّم قربانًا على مذبحة المعنى الذي يعطي لحياتهم دافعًا للاستمرار. معنى أني مختلف. معنى أني ذكية وخارقة. معنى أني غير مفهومة بسبب تعقيدي المتفرّد غير القابل للاختزال. لذلك أنا حزينة، فلا بد أن أسعد بحزني.

أسى الأذكياء المتميزين، تعاسة المختلفين الغير مفهومين، احباط الذين لا يفهمهم المجتمع. وكل هذا وأكثر. بالمناسبة، ستصل في مرحلة ما تصبح لديك حساسية في الحوار مع أي شخص يضمّن حديثه بالتراكيب التالية أو ما يشبها: «مجتمعي فاشل» أو «مجتمعنا». ربما ليس حساسية بقدر ما تعرف مدى بساطة اللياقات التي يملكها ذلك الشخص. لأن كلمة المجتمع لو أردنا تحديدها بدقة فهي غير موجودة. يوجد (هو/ هي). يوجد (أنا/ أنت). يوجد (هم/ هن). أما المجتمع هكذا بتجريد ومع إلقاء للوم عليه بأكمله مُغالطًا بالتعميم، فهو أمر غير موجود وعائم جدًا.

تحدثنا عن مُبررات المالينخوليا وأنها تدفع «لمعننة» الحياة. فهل هناك أسباب أخرى للتعاسة؟ لماذا هناك فيالق كثيرة من الحزانى البؤساء في الجيل الحالي؟


أرجح بشكل كبير أن الجواب يتلخص بالحكمة اليونانية الأصيلة المحفورة على معبد أبولو منذ القدم. حكمة «اعرف نفسك». لاحظ أن المفاتيح الكُبرى غالبًا ما تكون عبارات بسيطة وأشياء قد قيلت منذ أزمان سحيقة، إلا أن تكرارها العقيم فرّغها من أي معنى. فأي أحد يقول لك الآن أعرف نفسك ستشعر بلا شيء تقريبًا. لماذا؟ صراحةً لا أعرف، ما أعرفه أنه أمر مؤسف ويتطلب وقفة طويلة.

ميزة أغلب المعاصرين أنهم لا يعرفون أنفسهم – آمل أن تفكر مليًا بالمعنى وليسَ هكذا ظاهريًا فقط، ليسَ أعرف نفسك وحلق وطِر وغيرها من مصطلحات الفيديوهات التحفيزية الفارغة – لا أحد يعرف ما هي مساوئه، ما هي نقاط عواره. ما الذي ينقصه ويجعله غير كاملًا.

لا لا، يستحيل أحد أن يفعل ويقتنع بذلك. نحن الآن في الموجة الأخيرة من الدين. الدين الذي ينتهي أخيرًا في مَصبه الذي بدأه منذ رحلة طويلة جدًا، بدءًا من الآلهة المتعددة المُجسّدة، ومن ثم المتصارعة غير المرئية، وبعدها ثنائية التأليه، ثمّ الثنائية المتصارعة، فالوحدانية التي لا ترى، وأخيرًا المصب النهائي لهذا النهر الكبير مِن انعكاسات الإنسان، فيصبح الإله والإنسان شيء واحد حسب نظرة فيورباخ التي جسّدها في عبارته اللاتينية «Homo homini deus est الإنسان إله نفسه»، مُقلصًا بها اللاهوت والإيمان لصالح تضخيم الأنثروبولوجيا.

فأنّى يكون له بعد ذلك النقص والعوار؟ هذا ما يجعل مَن يعيش حاليًا تعيس، لأنه بدأ يؤلّه نفسه، بدأ يتلمّس فيها العصمة وعدم الخطأ.

هناك مثال «جامعي-دراسي» لطالما كان يضحكني يتعلّق بالطالب «الدحيح» الذي يحب الدراسة والذي يسمونه «نيرد». في الحقيقة عندما يسقط الطلاب في دراستهم فإن الحق عليهم وليس على ذلك الطالب كونه مُجتهد. فالعلاقة بين الجامعة والطلاب هي علاقة دراسية، أدنى محاولات للتغير فيها تضع اللوم على الطالب وليس على النظام الجامعي.

فمثلًا عندما يرسبون في موادهم ألاحظ أن أغلبهم يقول «لقد رسّبونا» أي هُم – المجهولون: أي أحد يمكن أن يُلام – مَن فعلوا ذلك. أو أن الأسئلة صعبة. أو أن ذلك الطالب هو «نيرد» لذلك نجح. لاحظوا أن كل شيء فقط مِن أجل نفي مركزيتهم مِن المسؤولية. وهي الحقيقة الكاملة، فلا الأسئلة صعبة ولا هم رسبوك ولا ذاك «نيرد»، لا لا يا عزيزي واجه نفسك بدقة وقل أنك أنت لم تدرس، الحق عليك. تحمّل مسؤولية، واعترف بالنقص.

دائمًا كنت اشعر بالاحترام تجاه هذا التفكير، الإنسان الصريح الذي يدرك مَكامن ضعفه وأخطاءه. أما سياسة وضع اللوم على الآخرين، فاعذرني على هذه العبارة، تدل على طفولية في التعامل. علاقة «الجامعة–طالب» هي علاقة دراسية. عدا ذلك لن تضر إلا بنفسك. ربما لا يشعر المعظم بهذا الأمر لأن التعليم مجاني ومُتاح للجميع، لكن لو كنت تعيش بالولايات المتحدة وقسط أقل جامعة مُحترمة هو 10 آلاف دولار للسنة الواحدة عندها ستعرف معنى ألا تدرس وألا تتحمل المسؤولية، عندها فقط ستلتزم برابط دراسي مع الجامعة، ليس ترفيهي أو استعراضي.

مِن هذا المثال البسيط أحببت أن أنطلق لمعنى أكبر يتلخص في المسؤولية والصراحة مع النفس. «تحمّلوا المسؤوليات» هكذا يقول بيترسون. أنضجوا. الخلل أنا ارتكبته. الحق علي أنا. هم لم يفعلوا شي خاطئ. حتى لو الظروف سيئة لمَ لا نتكيف معها إن كان مستحيلاً تغيرها!

«لا أحد يصبح غنيًا بالعمل مِن الساعة 8 صباحًا للرابعة عصرًا» بابلو اسكوبار يقول. أحدهم ردد هذه العبارة معلًلا مُخالفته الخط العام السائد. يا أخي أنت تأخذ مبادئك من إنسان تاجر مخدرات؟ ما هذا الكلام.

ضع اللوم عليك، تحمّل مسؤوليات، عانِ في سبيل غايات تصنعها بنفسك – دقق على كلمة صناعة، لا أفترض وجوب وجود معنى جاهز للحياة كما في وجهة النظر الفلسفية العدمية، بل هي أمر عليك فعله وصناعته – ثم الحق بها إلى النهاية.

بعد تحديد نفسك وبيان نقاط سلبيتها يبزغ المعنى الثاني المهم، وهو معرفتها حقًا. «مَن أنا؟» جاوب على هذه الأسئلة بشكل واضح. اترك الناس وشأنهم، لا تدقق فيما يلبسون ويأكلون ويشربون، نوع التسريحة والملابس والعطور التي يضعونها. مع من يتكلمون ومع من يمشون ويدخنون. اترك الناس وشأنهم واستغل الوقت لاكتشاف نفسك. هذه هي المشكلة. ضياع أعمار كاملة في الإدراك الخارجي، وعدم القيام بمحاولة واحدة للغوص في الداخل. لماذا تهرب؟ مَن أنت حقًا؟ هيا جاوبني.

جاوب بشكل دقيق. هل أنت الشهادة الدراسية التي تملكها؟ أم السيارة التي تركبها؟ أم مجموعة القشور الخارجية التي وُهبتها ولاديًا ولم تختر أي منها؟ من نمط لون شعرك، طولك، لون عينيك؟ هل أنت جنسيتك؟ هل أنت جنسك حتى؟

هناك الكثير يا صديقي الكثير. مُتتاليات مِن الأسئلة بلا نهاية تحتاج لإجابات غالبيتها مُرهقة الوصول ولعلَ هذا ما أجده سبب العكوف عنها، وكأن أحدهم يقول: يا رجل تريدني أن أجاوب عمن أنا وما الذي يجعلني نفسي؟ لا، سأريح نفسي بمعرفة ما تأكل فلانة وما يلبس فلان. هذا أسهل هذا أسهل.

«الحرية هي أوّل خمس دقائق مضت على ولادتي، أبكي، عاريًا، بلا خطيئة، بلا توجهات، بلا حقد بشري». مكسيم غوركي يقول. فمَن أنت الآن أيها العزيز؟ مَن أنتِ يا سيدتي؟

تمنحك معرفة سلبياتك شعور بالسعادة صدقني. أن تعرف نقاط ضعفك فلا أحد يستخدمها ضدك لأنك تعرفها.

«أنا لا أقابل الناس لأنهم أغبياء». أنت هنا كالطالب الذي يقول أنّ الأسئلة صعبة أو أن فلان «نيرد دحيح» لذلك نجح. باختصار أنت لا تضع اللوم عليك، تتهرب من المسؤولية. ماذا لو عكسنا الآية؟ ماذا لو الطالب هو المخطئ لأنه لم يدرس؟ ماذا لو أنت مريض مكتئب؟ ماذا لو كل هذا مجرد محاولة منك لتحيط نفسك – نذكّر مرة أخرى بدور السينما والقوالب الجاهزة – بفقاعة واهمة عن تميز غير موجود؟ خصوصًا الآن في زمن الميديا. زمن بيع وشراء التميز بالجملة. «منبر الضعفاء» كما كنت أقول دومًا.

وسائل التواصل هي منبرهم، منبر الذين لا صوت لهم.

كل هذه المعاني اللطيفة في سبر النفس وتصحيحها ورفع حكمتها وهدوءها ستجدها في الفلسفة الرواقية ومثيلاتها من فلسفات السيطرة والهدوء. كفلسفة «ديوجين الكلبي» ورفاقه. أقترح عليك هنا كتابين مُميزين جدًا سيغيران الكثير في نظرتك للحياة، هما: المختصر ابكتيتوس. التأملات لماركوس اوريليوس. لا تسألني لماذا وكيف، فقط اقرأ هذين الكتابين وبعدها سنتابع حديثنا. صدقني أنهما سيغيران الكثير فيك، وما قبلهم لن يكون كما بعدهم.

فإذن، في جميع الحالات سيكون المعنى سلبي. إن كنت مالينخوليًا فأنت تحيط نفسك بالوهم وتحاول ارتداء عباءة ليست لك ولا تناسب مقاسك حتى. وإن كان الحزن حقيقيًا فأنت مريض. لا يوجد إيجابية هنا. لا يوجد سعادة في الأسى. الطرفان أسوء و«أضرب» من بعضهما. ربما لو كنت كاتبًا سكيرًا تعيسًا كبوكوفسكي وهيمنغواي فالأمر قد يفيدك في التدوين والكتابة نعم، غير ذلك لا. غير ذلك هو ضرر.

توقّف عن التمارض، توقف عن كونك بلا مسؤولية، كونك ضعيف وخانع. هذا ليس تحفيز، هذا توبيخ يجب أن يقال لك إلا أنه لا يقال. لأننا للأسف نعيش الآن في عصر هذا الإنسان، عصر الإنسان المتقدّم حضاريًا إلا أنه ضعيف كئيب مُحطّم داخليًا. سأدعوك لفعل تجربة لطيفة كي تشعر بأمر ألطف، حاول أن تغلق الفيسبوك لمدة شهر ومن ثمّ تعيد فتحه، ما الذي ستجده؟

لا شيء. الناس نفسهم استمروا في حياتهم. لم يتغير شيء والوحيد الذي كان غائبًا هو أنت. نفس الفكرة عممها على الموت والحياة. عندما تغادر لن يتغير شيء، سيستمر التتابع نفسه والوحيد الذي سينتهي هو أنت، ستكون أنت الغائب الوحيد. ألا تعتقد أن هذا قد يعطيك مُبررًا أفضل لعدم الخنوع والضعف؟

الشخص الغير الاجتماعي، المنطوي، المريض، لو كان قبل 50 ألف سنة لما وصل إلينا الآن. لأن الأسلاف قد نجوا بسبب التعاون والتكاتف. عدا ذلك كان مصيرهم الافتراس والاضمحلال. لكن مع تطوّر الإنسان ودخول عصر المدنية والحضارة الذي لا يزال طفلًا في دقائقه الأولى لو قارناه مع أعمار التطوّر الكبرى، أصبح الإنسان أمام صدمة. فجأة يجد نفسه يُؤخذ من الطبيعة الواسعة ويُلقى في علب كبريت تُسمى منازل، وشوارع ضيقة خانقة، ومناطق لا مكان للون الأخضر فيها مُحاطًا بنظامًا رأسماليًا يدفعك للدراسة والعمل والركض كل يوم وراء لقمة عيش تحقق لك غريزة البقاء. فتكتئب!

لقد نزعوك حرفيًا مِن حضن طبيعي واسع ووضعوك ضمن علب كبريتية. فالاكتئاب سمة عصر المدنية والتحضر. أنت ستصبح سيد العالم نعم، لكن هناك ضريبة يجب عليك أن تدفعها. عندها فقط تدرك أن جزء كبير مِن السعادة يكمن في ممارسة طقوس الأولين، ممارسة ما كان يفعله الأسلاف في عرائهم.

تكاتف الأصدقاء، الغرائز، الحاجات.. الخ. رغم صدمتك عزيزي القارئ لكن فعلًا يتبدّى جزء كبير من السعادة في هذه الجوانب. الإنسان – حتى لا يحزن أحد – 80% فصيلة رئيسات حيوانية و20% قشرة حضارية فتية. محاولتك في السعادة عن طريق تطبيق أساليب حضارية ستكون حتمًا فاشلة ودون المطلوب. فالسعادة الأساسية تكمن في إسعاد ذلك الحيوان الصغير المختبئ صاحب النسبة الكبرى من مكوناتك. عندها فقط لا تتعجب عندما تدرك أن أكثر الأمور اسعادًا ولذةً هي الغرائز الأولية الأصيلة فينا. الجنس، الطعام، القوّة… الخ.

رغم قسوته، إلا أنه شيء طبيعي. وهذا هو الواقع. ومذ متى كان الواقع وحقائقه تعبئ بمشاعرنا؟


لم أقول كل هذا؟ لم أدافع عن السعادة؟

لن يأتيني شيء مِن كل هذا الكلام، في الحقيقة أنا إنسان سعيد وراضٍ إلى حد كبير، وأهم من هذا كله – وهو ما ستدركه يومًا ما – الاستقرار جدًا. نعم هناك فترات من الصعود وفترات من الهبوط، إلا أنها ضمن الحسبان وعندما تأتي تكون طبيعية ومتوقعة ودائمًا في نطاق الرؤية العامة لما نرسمه من حياة نواجها يوميًا. وجُل ما كنت قد حصلته في هذا المسير يعتمد على عدة عوامل، إلا أن المكتسب خارجيًا منها جاء من الرواقية التي اقترحتها لك في كلامي السابق والتي قد نفرد مقالًا خاصًا لها.

فعاجل نفسك يا صديقي، وكما هو مخطوط في صورة التدوينة، افعل ما يسعدك، فالأيام لن تعود. لكن قبل ذلك افهم نفسك واعرف مَن أنت. عندها ستعرف حتمًا كيف تسعد نفسك وتستقر.

لم يكن ذكاءً يا صديقتي، لم يكن فرادةً يا صديقي. لا لا، ليس تميزًا حتى. توقف توقف. ضع اللوم عليك وتحمّل المسؤولية. ابعد الـ «استكئاب» عن حياتك، لا تتمارض. فالأيام لن تعود، والناس لن يعودوا. والإنسان ساعات يفنى بفنائها ويمر بمرورها. فلا تتمنى انقضاءها وتنسى أنها أنت.

وكما قالها جبران: لكَ شيء في هذا العالم فقم. سأقولها هنا بدوري أيضًا، حتى لو لم يكن لك شيء فقم! شرف المحاولة يكفي! صدقني وحده يكفي!