منى فتحى
منى فتحى

د

زمني الفني الجميل

حين يُقال “زمن الفن الجميل” يتذكر الجميع على الفور فترة الخمسينات وربما الستينات، تلك الفترة التي إتسمت بالرقي والأناقة والجمال في كل شيء، فخرج لنا الفن أيضًا بجمالٍ يتسق مع تلك المنظومة الرائعة، إلا أني بالرغم من عشقي لفن هذا الزمن، لا أعتبره زمن الفن الجميل!

فلمَ أبحثُ عن الفن الجميل في زمنٍ لم أحيا تفاصيله، بين تحمل أيامي من الجمال قدرًا لا بأس به، أخص هنا بالتحديد أيام طفولتي، لحظة إكتشافي لتلك الشاشة المتشحةٍ بسوادٍ زائف، القابعة في سكون في ركن الغرفة، إلى أن يبدأ السحر فتتجرد الشاشة الصغيرة من وشاحها الأسود وتبدأ في بث الصور الملونة ومعها مزيج مفرح من الأصوات المتداخلة والنغمات الراقصة.

تخبرني والدتي عن نفسي التي لا أذكرها، كان ذلك قبل أن أكملُ عامي الثاني، حين جذبتني أفلام الرسوم المتحركة بألوانها الزاهية وشخوصها المضحكة، تركتُ ما بيدي من دُمى  وتوجهتُ كالمسحورة بخطواتٍ لم تثبتْ بعد نحو الشاشة المتوهجة بعروضها، لأتربع أمامها أتابع ما يدور دون أدرك معناه!

مرت الأيام وأصبحت سنوات، وبدأت معالم الصورة تتضح، كان ذلك في تسعينات القرن العشرين، تلك الفترة التي ربما لم تحمل نفس أناقة ورقي الماضي البعيد، إلا أنني أحمل لها في قلبي  أجمل الذكريات التي تؤهلها وبقوة لتصبح زمني أنا الفني الجميل.

وبالإضافة لروعة الطفولة وجمال ذكرياتها التي جعلت التسعينات هي زمني الفني الجميل،  إلا انني حين أنظر الآن لذلك الماضي القريب وأعماله الفنية المتنوعة أجد نفسي قد تعلمت من خلاله دروسًا هامة، فذلك الزمن الطيب الذي أرى أنه ظُلم نوعًا  يزخر بالعديد والعديد  من الشخصيات المؤثرة والمفاهيم الهامة التي شكلّت وجداني ووجدان جيل كامل لنصبح على ما نحن عليه الآن.

دعنا نبدأ مع ماتيلد ساحرة الشاشة الصغيرة، فلي معها حكاية ليست كباقي الحكايا…
كل طفل شاهد فيلم Matilda تمنى لو يملك تلك القدرة السحرية المدهشة على تحريك الأشياء عن بعد، قدرة أبهرت جميع الأطفال وقتها ومنهم أنا بالطبع، إلا أن ما أبهرني أكثر كانت المكتبة الكبيرة بأرففها العالية المكدسة بمختلف أنواع وأشكال الكتب، ذلك العالم الساحر الذي لم أعرفه من قبل بالرغم من عشقي للقراءة الذي ظهر مبكرًا، ولكن لم يخرج الأمر عن مكتبتي الصغيرة، ومكتبة والدي الأكبر التي طالما تسللتُ إليها بشغفٍ كبير، إلا أني لم أرى يومًا مكتبة كبيرة كتلك الموجودة بالفيلم، لذا أخبرت والدي برغبتي في رؤية مكتبة هائلة مثلها، فصحبني لواحدة من المكتبات الكبيرة الموجودة بوسط البلدة.

رافقتني حالة من البهجة والترقب طوال الطريق للمكتبة، ليطغى الذهول والرهبة حين وصلتُ على كل شيء، فقد كانت مكتبة كبيرة جدًا من طابقين، الأول مخصص بالكامل للأطفال، أما الطابق الثاني فكان للكبار فقط!

تنظيم الطابق الأول كان ساحرًا بموائد القراءة المستديرة والمقاعد الصغيرة الملونة،  أما الكتب المصفوفة بعناية فقد كان عددها وتصنيفاتها المختلفة أكثر مما إستطاع عقلي الصغير إدراكه في ذلك الوقت، لا أذكر بأي كتاب بدأت ولا بأي واحد إنتهيت، ولكني لازلت أذكر مدى سعادتي بتلك الزيارة الساحرة التي لولا ماتيلدا وفيلمها لم أكن لأحصل عليها.

كما تعرفتُ  أيضًا في تسعيناتي الحبيبة  على باتش آدامز صاحب القصة  الإنسانية التي علّمتني أنا وكل من شاهدها الكثير،  “باتش آدمز” هو الإنسان الذي تستحق قصته أن تخلّد  من خلال فيلم يحمل نفس إسمه “Patch Adams” يحكي لنا الفيلم عن الدور الإنساني الذي لعبه الطبيب آدمز في حياة مرضاه، فقد كان يعالجهم بزرع الابتسامات على الشفاه لتُضاء القلوب بالبهجة وتَطيب.

فيلم ممتع ومناسب لكافة الأعمار  ويعد تذكرة وهمسة في أذن الكبار، ومبدأ وأخلاق مهنة نتعلمها نحن الصغار، فهو يوضح لنا أن الطب مهمة إنسانية قبل أي شيء، بالدليل القاطع  النابض بالحياة هنا والباقي معنا دائمًا وأبدًا من خلال فيلم روبن ويليامز الجميل المبني على  أحداث القصة الحقيقية للطبيب الإنسان باتش آدامز.

وصلنا الآن لروس جيلر ورفاقه الخمسة في مسلسل التسعينات الأشهر والأقرب للقلوب Friends،  لعلك تتساءل الآن لمَ أخص روس جيلر بالذكر قبل باقي الرفاق،  أفعل ذلك لأن روس جيلر قدم لي واحدًا من أهم الدورس الأكثر نفعًا في حياتي، وذلك حين رفض المشاركة بمائة دولار في الحفل المقام تكريمًا لحارس العقار في نهاية خدمته،  لم يكن روس هنا بخيلًا كما قد يتبادر لذهن من لم يشاهد المسلسل، ولكنه كان صاحب مبدأ له كل الإحترام والتقدير، فهو ساكن جديد لم يعرف الحارس ولم ينتفع بخدماته كباقي سكّان العقار، فبأي منطق نطلب منه المشاركة الآن؟!

قد يبدو الأمر بسيطًا وربما تافهًا  ولكني وبعد عدد كبير من التجارب الشخصية  أجده أمرًا سخيفًا، فكر جيدًا معي ياعزيزي وستجد أنك سبق  وتعرضت لمواقف مشابهة لما تعرض له روس هنا، مواقف دفعنا الحرج وربما حرصنا على قبول الآخرين لنا لأن نقبلها رغمًا عنا.

فقد وجدتُ نفسي مرات عدة مدعوة للمشاركة في حفل لأشخاص لاتزيد معرفتي بهم عن معرفة هز الرأس، لمَ عليّ هنا أن أشارك بوقتي ومجهودي وأموالي؟!!  وافقت مرة وإثنان وثلاثة  وفي الرابعة تذكرت روس جلير  فتوقفت وأعلنت عدم رغبتي في المشاركة، لتصيب الدهشة المصحوبة بالغضب جميع الحاضرين وقتها، إلا أنني شعرتُ بالحرية والراحة لقراري هذا، كنتُ سأكره نفسي حقًا إن فعلتها مرةً أخرى، وبالرغم من ذلك لازلت الدعوات تصل ولكني لازلتُ وسأظل أرفع راية روس جلير في وجه الجميع!

صدقني يا عزيزي من لم يقبلنا بصورتنا الحقيقية لن يقبلنا مهما تزيّنا وأضفنا لأنفسنا رتوشًا زائفة!

أما عن أخر ذكريات فني الجميل فكانت مع  “جو فوكس” بطل فيلم التسعينات الأروع “You’ve got mail”  أعشق هذا الفيلم كما يعشقه كل من شاهده تقريبًا، ولي معه قصة طويلة ربما سأقصها لك يا عزيزي يومًا ما، ولكني لست هنا الآن للحديث عن الفيلم وقصته معي، فأنا هنا اليوم للحديث عن جو فوكس الذي أحبته كل فتاة من فتيات جيلي، فهو النموذج الكامل لفتى الأحلام، الرومانسي، الوسيم، الثري، أنا أيضًا أحببته لكل تلك الأشياء، ولكنه أثرني أكثر بمشهد واحد في الفيلم حين قام بزيارة كاتلين وهي مريضة، مشهد قصير ربما ليس أفضل مشاهد الفيلم وقد لا يتذكره الكثير، إلا أنه وضح لي وبقوة أهم ما يجب أن يكون حاضرًا في فتى الأحلام أو شريك الحياة.. السند، تلك الكلمة القصيرة المكونة من ثلاثة أحرف هي ما سيبقى للنهاية بينما  كل ما سبقها زائل.

دق الآن جرس النهاية، نهاية رحلتي مع زمني الفني الجميل، رحلة ربما لم تستطع كلماتي تدوينها كما يجب، إلا أن تلك الكلمات أضاءت بداخلي طاقة من النور والبهجة والحنين كافية لدعمي لسنوات طويلة قادمة، لذا دعني بكل الحب أحيي تسعيناتي الغالية وفنها الجميل.