ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

الحزن والفن

هل الحزن كيانٌ كامنٌ فينا، أم هو طيف ينتابنا نحاول أحيانًا مقاومته بابتسامة ولو مُتَصنّعة، بتأمل شىء جميل، وبأن نُحصي كل ما هو نعيم من حولِنا، وعند آخر رقم نُحصيه؛ قد تتفتح بداخلنا منافذ للنور؟! . يجعل الحزن قلوبنا متحجرة، مُظلمة، وأى شق من نورفيها يكون كالهواء، كالشهيق بعد الخروج من الماء .. ولكن مقاومة الحزن ليست سهلة، فالمقاومة تعني الإرادة، والإرادة تحتاج إلى عزم، والحزن يجعلنا مسلوبى الإرادة، فاقدي الرغبة، خاوين من أى عزم . الغضب قد يصلح دافعًا، ويخلق بداخلنا قوة. الغيظ أيضًا قد ينتج عنه فعل ما، حتى الغيرة تكون أحيانًا سبب للتألق والنجاح ، ولكن ما الذى ينتج عن الحزن؟!
قد لا يكون الحزن دافعًا لفعل قوى، ولكنه بلا شك دافع للتأمل، وللغوص فى أعماق النفس والدنيا، هو محرك لطاقات الروح، الحزن قد لا يجعلك تتحرك جسمانيًا وتخطط وتنفذ، ولكنه يحرك المياه الراكدة فى روحك، وقد يدفعك للإبداع فبليغ حمدى عندما طلّق وردة؛ دخل غرفته بالعود وخرج بلحن أغنية: “ الحب اللى كان ” وعندما مات عبد الحليم دخل بليغ غرفته أيضًا لساعات عديدة وخرج بكلمات وألحان بديعة: ” بنلف نلف نلف ..والسنين بتلف تلف ..وآلام بتزيد وجراح بتخف…” إلى آخر الأغنية.

الآلات الموسيقية، الورق والأقلام، الفرشاة واللوحة، وغيرهم من أدوات الفنون؛ للحزن عليها دلال، ولولا الحزن المكتوم المُؤلم ما نطقت هذه الأدوات، ما تحرر القلب من تلك الانقباضة، ما انتظمت دقاته وعاد للحياة، ولولا هذا الحزن البشري ما استمتعنا بأعمق وأصدق وأجمل الألحان والمَشاهِد والكلمات.
كان بيكاسو يعتقد أن الفن وليد الحزن، ومر فى حياته بما يسمي: “المرحلة الزرقاء“، وهى مرحلة رسم فيها أجمل لوحاته معتمدًا على اللون الأزرق، جاءت بعد مروره بحزن شديد نتيجة مأساة انتهت بها حياة صديقه، كما أن حياة بيكاسو نفسه فى تلك الفترة كانت مزيجًا بين الألم والمعاناة، و أصبح اللون الأزرق يعد رمزًا لكل ما هو مأساوي وحزين.

ربما ما يجعل للحزن تأثير بديع على الفن هو الصدق، فالصدق والعمق والحقيقة الموجودة فى مشاعر الحزن تظهر فى الإبداع، وقال الأصمعي يومًا لأحد الأعراب : ما بال المراثى أشرف أشعاركم؟!
قال : لأننا نقولها وقلوبنا محترقة.
ومن هنا ظهر فن “العدودة” الموجود بشكل أساسي فى الصعيد . عندما كان يموت الغالى والعزيز، تجلس نساء البلدة يعبرن عن حزنهن ” ويعددو” عليه ” بعدودات ” أصبح منها ما هو تراث تتناقله الأحزان، وتردده النساء فى المآتم كما يرددون الأغاني التراثية الشعبية فى ليالي العُرس والحِنّة.
“العدودة” هى تنفيس عن انفعالات نفسية قوية حزينة تنفيس أخرج إبداعًا تراكم عبر السنين ليصبح فنًا من نوعٍ خاص، كلماته وأشعاره تحتفى بالحزن، وتخلق لمشاعر الألم والفقد مساحة حتى لا يختنق بها صاحبها، ورغم أنه فنًا شفهيًّا غير مخطوط، إلا أن به كل الصدق والإبداع والتأثير

أخويا شقيقي وريحة أمي فيه ، أمانة يا حصى القبر خليك حنين عليه ، أمانة يا مغسل قبل ما تغسل العين، ميّل عليه وقوله أختك تروح لمين، بالله اعملوا قبر أخويا زين، أخويا كان غالى وكحل العين، بالله اعملو قبر أخويا مليح ، شباك يكون عالى يخش منه الريح “.
الإبداع هو نافذة يُطِلّ منها الحزن، ويتجلّي كعروس فى أبهى حُلّتها، حتى نكاد ننسى عندما نراها أن كل هذا الجمال كان فى الأصلِ حُزنًا .