مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

صراع الكاتب بين العزلة والتواصل على مواقع السوشيال ميديا

تدوينة: ياسمين غُبارة

الكتابة… الإبداع… ذلك الخلق البشري الذي يُطلق عليه فن الكلمات، التي تتراص كأصابع البيانو ليعزف بها الكاتب لحنه الخاص على وجدان القارئ، ذلك الإلهام الذي يقارب المعجزات، المتعة كل المتعة فى ذلك العالم الخيالي الذى يسبح فيه الكاتب بعيدًا عن الواقع، ولكن هل هذا المحراب الذي تُخلق فيه الأفكار، يمكن أن يكون محرابًا للإبداع الحقيقي النابع من الصدق والتوحد مع الفكرة مع وجود شاشة صغيرة بجانبه تنير كل دقائق؛ لتُعلم الكاتب بصديق أثنى على روايته الأخيرة، أو بقارئة ترسل له رسالة بانطباعها عن أحد أعماله، أو يجد على بريده دعوة لمناقشة عمله الأدبي للمرة الخامسة فى مكان يُشعره بالتوتر أكثر من أي شيء آخر. يتصفح الكاتب مواقع التواصل الاجتماعي، يتبادل كلمات المُجاملة والتهنئة والشكر والإعجاب مع القراء والأصدقاء، يحاول أن يبدو ودودًا، لا يعلم أتكفي “لايك” أم يجب أن يكتب ردًا؟! وهل إذا أعطى علامة “القلب” لأحد الردود سيضطر لإعطائها لباقي التعليقات؟!

يعتريه التوتر… فيُغلق الإنترنت، يضع هاتفه جانبًا، ويواجه صفحاته البيضاء التي كان يحاول أن يسبح فى فضائها منذ قليل؛ فيجد  تلك الانطباعات و”اللايكات” والكلمات تحوم أمامه، يشعر بالقلق وبمشاعره وطاقته قد استُهلكت، لا يعلم كيف ينفصل، فالتواصل مع القراء له بريق لا يستطيع أن يُقاومه… أن يرى تأثير كلماته بشكل يومي على المتابعين هو شيء يملؤه بالحماس والسعادة؛ لدرجة أنه يشعر أحيانًا بأنه أصبح مدمنًا لهذا الشعور، ويتغذى عليه أكثر من تغذيه على الكتابة نفسها.  لا يعلم أين تقع الكتابة فى خضمّ كل هذا، وهل لذلك التواصل تأثير ما على طاقته وانطلاقه في الكتابة؟!.

 قد يتبادر  إلى ذهنه أنه يروّج لأعماله حتى  تظل عجلة النشر مستمرة، ولكنه يعود ليتساءل: متى أصبح هو المروج والبائع؟! متى أصبح ذلك همًّا يأكل في مِداد قلمه؟!.. فالكتابة دائمًا ما كانت عملية مُرهِقة في حد ذاتها كالولادة المتعسرة، فلماذا يضيف إليها عبئًا جديدًا؟!

يقول الكاتب والروائي إبراهيم عبد المجيد في حواره ببرنامج “وصفولي الصبر”:

“إن الكاتب يجب أن تنتهي علاقته بالكتاب فى اللحظة التي يُسلمه فيها إلى دار النشر؛لأن ترويجه لكتابه يأخذ منه ومن طاقته”

قد يبدو ذلك الرأي مبالغًا فيه، خصوصًا لبعض الكتاب الجُدد، ولكن لا يمكن إنكار أن في هذا الرأي الكثير من الحقيقة. كان للروائية “ريبيكا كوفمان” رأيٌ مطول في هذا الخصوص، فعندما طلب منها الناشر أن تنشئ حسابًا على صفحات السوشيال ميديا من أجل أعمالها الروائية؛ شعرت بحيرة، فهي لم تشعر بأنها بحاجة إلى ذلك، ولم تكن قد طرقت ذلك العالم من قبل، فكتابتها تنصب على الخيال، وهذا الخيال يتطلب منها  أن تتحرر من التفكير فى القارئ وانطباعه ورأيه وتقبله لما تكتب، وأي قيود قد تجعلها تفكر في استخدام كلمات معينة دون غيرها، فعندما يستحوذ على ذهن الكاتب حالة ترقب دائم لرد فعل مواقع التواصل على ما يكتبه؛ فإن ذلك كفيلٌ بأن يشوش على رؤيته وإبداعه. وبالنسبة لها، فإن الطريقة الوحيدة للإنتاج الأدبي؛ هى أن تخلق لنفسها مساحة ذهنية خاصة لا يوجد بها  انطباع القارئ، أو ما يتوقعه الآخرون منها، وتقول:

“فقط فى تلك المرحلة التي أنفصل فيها عن كل ما له علاقة بشخصي، أتمكن من العبور إلى عالمٍ آخر لأستكشفه، وأكتب عنه دون قيود”.

فهل تواصل الكاتب مع قرائه وتواجده على مواقع التواصل هو فى مصلحة الإبداع الأدبي؟..

كثيرٌ من القراء يصيبُهم نوع من التوحد مع الكاتب من خلال أعماله، فيبحثون عن طريقة للتواصل معه على اعتبار أنهم سيستحضرون في هذا التواصل نفس الشعور الذي اعتراهم خلال قراءة أعماله، أو حتى من باب الفضول لرؤية وسماع ذلك الشخص الذي استطاع أن يؤثر فيهم بهذا الشكل، وقد يصيب القارئ بعض الإحباط عندما لا يرى فى شخصية الكاتب ما توقعه أو أراده. وهنا يجب أن أسأل:

 هل إتاحة الكاتب نفسه للتواصل المستمر مع القراء على مواقع السوشيال ميديا هو من مصلحة القارئ والكاتب؟

أين ينصب خروج الكاتب من إطاره وزوال الحدود بين شخصيته ككاتب وشخصيته الإنسانية العادية أمام القارئ، هل ينصب فيما يفيد أم فيما يضر؟ أم هي عملية ترويجية بحتة؟!

وإذا كانت كذلك، فهل هذه العملية الترويجية التي تورط فيها الكاتب بشكل أو بآخر على مواقع السوشيال ميديا هي في عالم لا يتقاطع مع إنتاجه ومجهوده الإبداعي، أم أنها تتقاطع معه وتؤثر عليه، بل وتشكله في بعض الأحيان؟… مَن المُتضرر؟… ومَن المستفيد؟

تناولت “أودري لينج” الحاصلة على دكتوراه فى الفلسفة هذا الموضوع بشكل موسع فى مقال علمي بعنوان: “استخدام الأدباء للسوشيال ميديا” مجتمع الكُتاب الإلكتروني والأوجه المتعددة، تعرض في المقال تأثير السوشيال ميديا على الكُتاب، وتوضح بأن التواصل بين الكاتب والقارئ موجود وقائم منذ زمن، سواء في شكل ندوات أو غيره من المناسبات الثقافية، ومن المفترض أن السوشيال ميديا توطد وتعزز هذه العلاقة السامية والخاصة بين الكاتب والقرّاء، ولكن لم يتم بحث ذلك الافتراض بشكل دقيق حتى الآن، حيث يتحدث البعض عن أن الشخصية المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي هى صورة غير أصيلة للشخص. وأشار أحد الكتاب إلى أن هناك أقنعة عديدة يتم التعامل بها على السوشيال ميديا وطرح فكرة وجود شخصية بديلة يتم التعامل بها على هذه المواقع، وآخر وضّح أنه قد يحتاج الكاتب إلى الكشف عن بعض جوانب شخصيته الحقيقية في منشوراته التي يشاركها مع قرائه، وذلك ليُكسبها بعض المصداقية والواقعية، والتأثير على المتابعين.

الدكتور أحمد خالد توفيق كان له رأي فى تلك المسألة، وهي أن الكاتب يجب أن يواجه كل ذلك الزخم بأن يعزل نفسه عنه، فإذا كانت العزلة هي ما يتغذى عليه الإبداع؛  فما الذي تفعله مواقع التواصل الاجتماعي في الإبداع؟

هل هي تسرب مستمر لكلمات وأفكار ومشاعر وطاقة الكاتب، تسرب يحول دون تدفقها في شكل قوي ومؤثر في أعماله الإبداعية؟! هل هناك نمط أو منهج لإمكانية تعامل الكاتب مع السوشيال ميديا والتواجد وسط قُرائه دون أن يستهلك ذلك طاقته النفسية والإبداعية ودون أن يضع العقبات أمام قلمه؟! أم أن كل ذلك ما هو إلا مخاوف في غير محلها وعدم قدرة على  تقبل صورة قريبة مختلفة وغير نمطية  للكاتب؟!