أحمد عبد الناصر
أحمد عبد الناصر

د

هل العلم الحديث ملحد حقاً؟

رغم بساطة السؤال الظاهرية إلا أننا نحتاج إلى تفكيكه لنكوِّن نفس التصور للسؤال، حتى وإن اختلفنا في الإجابة. هذا التفكيك سيكون من خلال مجموعة من الأسئلة الأخرى؛ هل للعلم دين؟ وماذا نقصد بلفظة الدين؟ وما معنى حيادية العلم؟

تعريف الدَّين[1]

التعريف الكلاسيكي للدين يتمحور حول هذه الأصول الثلاثة؛ العبادات أو الشعائر، والإيمان بوجود إله، والأحكام والتشريعات. الحق أن هناك معتقدات تندرج تحت خانة الدين لكنها قد لا ترتبط بهذه الأصول، فإن الشرائع والعبادات ووصف الإله هي نتيجة لمفهوم أكبر، وهو رؤية الإنسان الوجودية، كيف يرى الإنسان هذا العالم من حوله. وبهذا التعريف الأشمل يكون لدينا قائمة طويلة من المعتقدات والتي تم تقسيمها كالتالي:

  • الألوهية Theism
  • الإلحاد Atheism
  • الربوبية Deism
  • تعدد الآلهة Polytheism
  • وحدة الوجود Pantheism
  • الشيئية Ietsism
  • اللاأدرية Agnosticism
  • اللاكتراثية Apatheism

وقد تطول القائمة أو تقصر بحسب الدمج والتفريع في تلك الأفكار.

نقول بالفعل اللاكتراثية – وهي الموقف النفسي الغير مهتم بقضية إثبات الدين من عدمها – أنها بالفعل دين، لأنها تصلحُ لأن تكون إجابة في خانة (ما دينك؟) وهنا لا يوجد تناقض، لأنه كما قلنا هذه هي الرؤية التي يتبناها الشخص عن هذا العالم، وهو في هذه الحالة إقراره بعدم أهمية الـ(دين) بالمعنى الكلاسيكي.

نجد الكثير من الملحدين يرفضون إدراج الإلحاد باعتباره دين، أو وصف أنفسهم بالإلحاد، حيث إنَّ الإنكار هو الأصل، فأنت إن كنت لا تعتقد بأن الأرض مسطحة لا نطلق عليك اسمًا ما، بينما إن كنت كذلك نُسمِّيك Flat-Earther .

فنقول أولًا بأن الإنكار ليس هو الأصل، بل الجهل أي عدم الإقرار بالإيجاب أو النفي، أما الإلحاد فهو إقرار بعدم وجود إله، والألوهية هي إقرار بوجود إله، واللاأدرية هي إقرار باستحالة الوصول لتلك المعرفة، واللاكتراثية هي إقرار بعدم أهمية وجود إله من عدمه، وهكذا…

وثانيًا، وجود تصنيفات ومصطلحات ليس لونًا من التلامز بالألفاظ، وإنما هو وصف لهذا المذهب، منه ما احتجنا إلى تأسيس مصطلحات واصفةً له، وذلك للتفريق بينه وبين باقي المذاهب، ومنها ما لم نحتج إلى ذلك.

نقول هذا شافعي وهذا مالكي للتفريق بينهما، وليس تقسيم من باب الانتقاص. ولكن هذا الانتقاص لا يخلو من اللهجة التي نتكلم بها في حالة الخلاف، ونبرة هذا (تطوُّري) وهذا (خلقوِّي) تنم عن هذا. فحتى وإن قصد البعض هذا (زملكاوي) بغرض الانتقاص، فمن غير العقلاني أن ينفي أي مشجع لنادي الزمالك أنه (زملكاوي).

بين الإيمان والكفر

إن كانت كل هذه التقسيمات أصابتك بالتُخمة الفكرية، فلدينا تقسيم أبسط بكثير.

(هُو الَّذي خلقكُم فمِنكُم كافرٌ ومنكُم مؤمنٌ واللهُ بما تعملونَ بصيرٌ) (التغابن:64)

الإيمان نقيض الكفر، فكلُ من ليس بمؤمنٍ فهو كافر، فهذان النقيضان لا وسط بينهما البتة، وأي تقسيم آخر سيكون بحسب الموقف ولكن يندرج تحت هذه القسمة. مَن لم يوصف بالإيمان، فعلى الفور تعلم بأنه تم وصفه بالكفر بما في ذلك الذي لم تبلغه الرسالة، بما في ذلك أهل الكتاب، بما في ذلك أي تصنيف يخطرُ على بالك.

لا يُمكننا تبني مبدأ “خير الأمور الوسط” الذي يدعونا إليه ستيفن جاي كولد في كتابه (صخور الزمان؛ دور العلم والدين في اكتمال الحياة) لأنه لا وسط بين النقيضين، الوسط يكون بين المختلفين فقط.

هكذا توصلنا إلى أن أي شخصمذهب له تصور عن الوجود إما مؤمن أو كافر. وهذا متحقق في كل البشر، لكن هل يصح في حق غير البشر؟ أيجوز السؤال عن دين الدولة مثلًا؟

هذا السؤال يصح في بعض المذاهب التي يصح أن يُنسب لها تصور وجودي ما بحيث يُسبب هذا التصور تناقض مع فكرة الإيمان نفسها، مثل التي ذكرناها سابقًا وغيرها..

أعلم بأن هذه النتيجة صادمة ومربكة، فأمَّا الصدمة لا حيلةً لنا فيها، وأمَّا الإرباك، فدعونا نأخذ بعض الأمثلة لكي تستقر الفكرة.

مثال 1: ما هو اعتقاد مذهب (الزمالكاوية)؟ لنعرف الإجابة نسأل أولًا، هل يصح نسبة رؤية تصورية وجودية في تشجيع الزمالك؟ اللهم لا، لذا فهو خارج هذه القسمة.

مثال 2: ما هو اعتقاد مذهب (وحدة الأنا Solipsism)؟ وهو الاعتقاد بعدم الوجود الخارجي، أي أنَّه لا شيء حقيقي إلا وعيي أنا، ومن أمثلتها أننا – أو بالأحرى أنت فقط أيها القارئ – في حلم، أو أننا نعيش داخل محاكاة كمبيوتر.

هل هذا المذهب له تصور وجودي؟ نعم له، ولذا يصح له التقسيمة السابقة. دعونا الآن لا نقفز إلى إجابة هذا السؤال تحديدًا هنا لأنه سيحتاج إلى مقالِ مستقل، بحيث نُثبت أن هذا التصور ولوازمه ليست حيادية وإنما تتعارض مع ما نؤمن به.

نعم نعم، أعلم بأن مصطلح (التصور الوجودي) وما يندرج تحته وما لا يندرج هو محل نقاش وبه الكثير من التفاصيل، لكن هكذا لن نصل السؤال الذي نريد إجابتها هنا.

حيادية العلم

يقول أحد المدونين بأن العلم والدين هما كيانان مختلفان تمامًا، مثل نظارة السينما، ما تراه العدسة الحمراء هو مختلف عن ما تراه العدسة الزرقاء، ولا خلط بينهما، فلا ترى العلم يتكلم عن الإله، ولا نصوص الدين تتكلم عن العلم.

ولنزن هذا الكلام بفهمنا السابق الأعم عن الدين، هل العلم له تصور وجودي؟ أم أنه محايد لا علاقة له بالإيمان ولا بالإلحاد؟

الحق أن العلم التجريبي المادي له تصور وجودي بالفعل، وهو أن الكون مادي تمامًا، لذا لا سبيل إلى المعرفة إلا من خلال التجريب، لا مساحة لأي تدخل من الإله، فهذا الكون محكوم بالفيزياء فقط.

فهل هذا التصور الوجودي محايد فعلًا أم إقراري؟ هذا التصور هو إقراري، بالتحديد إقرار بعدم وجود أي شيء غير خاضع لقوانين الفيزياء، إنكار لأي شيء غير طبيعي، مما جعلنا في الوقت الحالي مضطرين إلى تسميته بـ(العلم التجريبي المادي) وهذا ليس اسمه الثلاثي كما نقول (محمد أحمد علي)، وإنما هذا الشرط هو المُقيِّد للوصف الذي قولناه، وهو إنكار أي شيء غير مادي.

قد يبرر البعض بأن المادية ليست بالضرورة تناقض الإيمان، وإنما هما (لغتان مختلفتان)! لكن شتان بين الحيادية “المزعومة” وبين الإنكار الواضح الذي ما رأيت أحدًا من العلماء الماديين في العصر الحديث يقول بعكسه، بما فيهم صاحبنا المدون المهتم بالعلوم.

علم الفلك هو محايد فيما يتعلق بالظواهر الطبية (كالأمراض ونشأتها وعلاجها) ولكنه غير منكر لها، وإنما يقول هذا الأمر ليس من تخصصي.

كذلك طبيب الأسنان محايد فيما يتعلق بأمراض القلوب، فلو تبين أن الخلل هو في القلب لا في الأسنان، ساعتها يقول لك الطبيب: اذهب إلى غيري في تخصص القلب. لكن ماذا إن اتخذ طبيب الأسنان موقفًا غير حيادي، موقف إنكار، لا يوجد شيء اسمه القلب أصلًا.

هذا هو بالضبط موقف العلم التجريبي المادي، إنكار كل ما هو ليس ماديًا، فهو لا يقف موقف المُحايد، وإنما هو يقف موقف المقر بالإنكار الصريح الذي لا لبس فيه. المادية والإيمان ليستا لغتان مختلفتان، وإنما إجابات متعارضة لنفس السؤال، ألا وهو سؤال الحقيقة، ما حقيقة كذا.

لو أننا في زمن المسيح، وسمعنا بولادة طفل بدون أب، فالمادية تقول أنه لا يوجد شيء اسمه معجزة، وهناك تفسير مادي طبيعي علمناه أو لم نعلمه، لكنه موجود، نقطة وانتهى الكلام.

العلم المؤمن

إذن، أتقول أنك لو سمعت الآن بأن هناك رجل يطير ستصدق هكذا؟!

بل سأكون متشككًا قطعًا، وأريد دليل ودليلان وأكثر على هذا، فلا تلبسوني بذوي عقليات الخرافة الذي يسلمون عقولهم لكل ناعق، ويميلون مع كل ريحٍ.

ودعونا نأكد بشكل واضح:

” الأصل في الأشياء أنها ظواهر طبيعية “

هذا الكون محكوم بقوانين، ولا يوجد أي مبرر للاعتقاد بخرق هذه القوانين إلا بدليل، المشكلة الدائرية التي تظهر هنا هو أنه عدم اكتشاف تفسير لا يعني بالضرورة عدم وجوده، فهو لا محالة طبيعي. وهذه المشكلة ناشئة في الأساس من اعتبار المادية أن الحس والتجريب هما المصدر الوحيد للمعرفة، فبالتالي لن نصل إلى نتيجة البتة من داخل هذا المذهب – وللطرافة – ذو الأسس الفلسفية الغير تجريبية.

مِن أفضل الأشخاص العقلانيين الذي يفهم هذا بشكل واضح هو (جيمس راندي) – وهو مُلحد بالمناسبة – صاحب مؤسسة راندي التي تعرض مليون دولار لأي شخصٍ يستطيع أن يُثبت ظاهرة خارقة للطبيعة تحت الشروط المخبرية. وحتى الآن لم يفز بها أحد، وإن كان لا بد أن تسأل، لماذا لا أقدمُ أنا فأفوز فوزًا عظيمًا، فيبدو أنك لم تقرأ مقالتي (بين تأليه الإنسان وأنسنة الإله) بالتحديد فِقرة (هندسة الإله).

الشاهد هنا أن المقولة التي يُرددها راندي هي أنه لا مانع عقلي من وجود ظواهر خارقة للطبيعة، لكنه حتى الآن لم يصادف واحدة. وعندما يُقال له بأنه debunking يدحض الظواهر الخارقة تجده يعترض، لأنه لا يحكم عليها بشكل مسبق بأنها مزيفة، وإنما يخضعها للتجربة.[1]

وكما تقول تابيثا بويجان[2]: هناك مبدأ أساسي في الفلك، ألا وهو عدم تفسير أي ظاهرة فلكية بتفسير (فعلها الفضائيون) إلا كحل أخير.

احذر المنحدر الزلق

لا أنفك أطرح هذا الموضوع على من حولي، حتى يُبادرني بسؤال “فماذا؟”

  • أتقصد أن نفسر الظواهر الطبيعية بالنصوص الدينية؟
  • أتقصد أن نخلط العلم بالدين وفتح الباب على مصرعيه لما يُسمى بالإعجاز؟
  • أتقصد أن نصدق بأي خرافات وأي تفسيرات لا دليل عليها؟
  • تقصد أن نكفِّر العاملين بالمجال العلمي؟
  • تقصد  أن التطور خطأ؟
  • تقصد أن الأرض مسطحة؟

وتتوالى هذه السلسلة إلى ما شاء الله في منحدرٍ زلق. سؤال (كيف سيتغير إجراءنا للعلم مع هذا التصور؟) هو سؤال لاحق على كل ما قولنا، ولا نُجيبُ الآن إن كان سيتغير أم لا، وما هو مقدار هذا التغير، وبأية معايير. فنحن هنا لا نعقد صفقة تجارية، إن وافقتك في الشروط، وافقتك في التصور السابق، وإن لم أفعل فـ(نفضها سيرة)!

هنا أنا لستُ متحيزًا ضد العلم، ولم أقرضه مئة جنيه فلم يردها، فأرد الطعنة بالسب والتشهير به في المواقع. لذا يجب أن يصب القارئ هذا الكلام في مساقه الصحيح، وهكذا هو العلم، نقول، فنُخطئ، فنصحح بعضنا لبعض.


[1] https://www.youtube.com/watch?v=24kpAClYmmQ    الدقيقة 7      

[2] https://www.youtube.com/watch?v=gypAjPp6eps


[1] https://www.youtube.com/watch?v=_PiWgKfOnUg