ندى رفعت
ندى رفعت

د

“صديقٌ بنكهة أخٍ”

نتعثر في طرقنا فنظن أنها النهاية الحتمية، حتى نجد يدًا -لا نعرفها- تمتد لنا، تنتشلنا من ضياعنا وتكون عونًا، فتنساب كلماتها على قلوبنا فتزيل كل وجع، وتبعث في نفوسنا الثقة من جديد، تخبرك في أشد أوقاتك هونًا أنك تستحق كل الحب والأمان، تستحق أن تحظى بحياة مليئة بكل ما تتمناه، وتظن أنت أنها علاقات عابرة أو ربما نشأت بدافع الشفقة لكنك تدرك فيما بعد أنها الملاذ الآمن ونصيبك من هذه الحياة، فتُصدق على المثل الشهير: «رب أخ لم تلده أمك».

أقف دائمًا مشدوهةً أمام علاقات الصداقة وقدسيتها، فالأصدقاء هم خياراتنا الأولى في هذه الحياة؛ خُلقت فوجدت أخوتك لا دخل لك بوجودهم، لكنك بدأت تكتشف العالم والناس فوجدت صديقًا تخبره عن مخاوفك البسيطة التي تكون حينها كبيرة، مثل خوفك من الظلام والحرص على تغطية قدمك أثناء النوم حتى لا يعبث بها العفاريت، حيلكم المُضحكة وإكتشافاتكم المثيرة للإهتمام حينها، أفلامكم المفضلة وأغنيات صباكم “عهد الأصدقاء” التي كانت شعار صداقتكم، تنقضي الأيام سريعًا ويسير كل واحد في حياته ربما تلتقون صدفة فـ تحيا في قلوبكم الذكريات من جديد، تجلسون في المقهى كل يحكي ما آلت إليه أيامه على صوت أم كلثوم وهي تقول ” قول للزمان أرجع يا زمان” وكأنها تشارككم اللحظة مع كوب الشاي بالنعناع.

وكل مرحلة في العمر تكون صداقات جديدة، لكن تبقى نكهة أصدقاء الدراسة والطفولة مميزة، أصدقاء بنكهة الدفء، فرغم إنشغال كل منكم بحياته تكن متيقنًا أن حضنه يسعك في أي وقت، وأنه الحاضر الغائب الذي يرمم صدوع روحك وقلبك، لقاءاتكم القليلة تُعيد ترتيب نفوسكم وتمسح عناء الحياة عن وجوهكم، تتلهف لتقص عليهم الأخبار السارة متأكدًا أنهم أكثر من سيفرحون لك، فتجد من تفوق سعادته سعادتك، ومن يفخر بك في كل مجلسٍ كأنك ابنه، وعندما تضيق عليك الحياة يأخذك إيمانك بأنه أكثر من سيخفف عنك إلى بيته، فتجده مفتوحًا لك، تجد عنده النصح والدعم، تُدلي بأوجاعك فيستحيل صقيع قلبك لدفءٍ وتزهر كلماته في قلبك ياسمينًا، تسترجع معهم ذكريات مراهقتك والشغب الذي كنت تقوم به، فتضحكون كما العهد القديم وتتمنون أن يقف العمر عند هذه اللحظة بضع سنين حتى تمتلئ نفوسكم ببهجة اللحظة.

وتلك العلاقات وقوتها ولم تمكثوا معًا سوى ساعات في اليوم فماذا عن أصدقاء الغربة رُفقاء المسكن؟

لا تكفي كلمة صديق لوصفهم، فهم أهل، يلعب كل واحد منهم دور أحد أفراد عائلتك، الصديق الأب الذي يوجهك وينصحك لأنه يخشى عليك، وإذا أرتكبت خطأ لا يدع قدمك تزل، وصديق يُشعرك حنانه أنه أم، يطمئن على صحتك ويسألك في كل وقت عن طعامك، أدويتك، صلاتك، عدد ساعات نومك، يحمل في قلبه حنان الأمهات وخوفهن، حتى ضمته لك تُشعرك بوجود عائلتك فتنام بعد ليلة مليئة بالوجع قرير النفس.

لا نعرف من الضمائر سوى “نا” طعامنا، ملابسنا، أشياءنا، كل شيء نتقاسمه، ورغم كثرة الأيادي الطعام لا ينضُب، لكل منا وظيفة من يُعد الطعام والذي لا يتغير كثيرًا” أرز أو مكرونة”، ومن يساعد في تحضير السلطة، غسيل الصحون الذي يهرب منه الكل، وكوب الشاي الذي يتقاسمه إثنان، ولا أنسى نفحات الأمهات، فمن ترسل أمه” حلة المحشي” يُكرم فنلتف حولها ورائحتها تُثير في قلوبنا الحنين لأهلينا، فنأكل ولا تمتلئ بطوننا بقدر ما أمتلئت قلوبنا بالدفء مستشعرين مقدار الحنو الذي طُهي به هذا الطعام.

نتقاسم كل شيء حتى الحزن فمن يحدث له شيء يحزنه نكتئب لأجله، وكل يحاول أن يخفف عنه بطريقته، أحاول أن أضحكه حتى تفيض عيناه من الدمع، ويضمه آخر، ويحاول ثالثنا أن يجد له حلًا، وفي نهاية الأسبوع نضع ” القرش على القرش” مثلما يقولون حتى نعلم هل سيكفي أن نعود لأهلنا أم سنمكث أسبوعًا آخر في إنتظار المعونات.نضحك معًا مثلما نحزن معًا، فيصل صوتنا لكل الجيران، نسهر ونشاهد الأفلام معًا، نتناقش في كل شيء وأي شيء، لا نخجل من طرح بعض التساؤلات التي ربما تنم عن غباء، فنجد أجوبة منطقية لكل سؤال تافهه، ونجد أجوبة حكيمة، ويظل البعض معلقًا حتى نضحك من فرط غبائنا.

لا يمل أحد منا من سماع خيبات صديقه- وتكون هذه المرة التي لا تعد من حكيها- يُنصت له ويخبره أن كل مر سيمر، يمسح دموعه ويشاركه فيها، يتألم قلبه ويخف الحمل عن الآخر، وتنتهي هذه الجلسة وهو يدعو الله ألا يذق قلب صديقه أي وجع آخر.يمرض إحدانا فنشعر كلنا بالألم ، نسهر حتى الصباح وقلوبنا وجلة نرتعب من فكرة الفقد، ونظل ندعو الله أن تزول الغمة ولا نرى بأسًا بأحدٍ منا، سند وأهل ولا يرجون مقابل لكل ما يقدمونه، سوى أن تظل ذكراهم في قلوبنا ما حيينا.

وكانت كل صداقاتي محض صدفةٍ ظننتها عبثية لكنها كانت عوضًا عما فقدت، فسلام لقلب كل صديق يعي دوره، فينصح ويصفح ولا يبخس صديقه حقه، فيقول كل كلمة في وقتها فيكون سببًا في إحياء قلب آخر.