لولوة السحيم
لولوة السحيم

د

كيف تربح الشركات من تزعزعنا الداخلي؟


الثقة بالنفس ضرورية كي يمكن للمرء أن يعمم ويصوغ نماذج تفسيرية

( عبد الوهاب المسيري )

في الليلةِ التي سبقت وصول دعوةٍ لي للإنضمام لمجتمع آراجيك لأكون كاتبة هنا كنت قد ابتدأت موضوعاً للنقاش مع الأصدقاء في إحدى برامج التواصل الاجتماعي. 

بدأت النقاش هناك بـ (حقاً أود أن يصل حديثي هذا لشريحة أكبر، لكن في الوقت الراهن أنا لا أملك سوى خمسون صديقة هنا تستطيع الإستماع لحديثي هذا). فكانت الدعوة التي تلقيتها من آراجيك أشبه برسالة كونية تخبرني أن أعيد التحدث بذات الموضوع هنا، كتدوينة بسيطة. 

كنت قد أخبرت الصديقات هناك مسبقاً بحقيقة حتمية تناساها معظم الناس، حقيقة أن جميع الفتيات بلا استثناء جميلات! وأن حكمنا على بعضنا بجميلة وقبيحة ماهي إلا نتيجة تأثرنا بمعايير وضعت برعونة وتسلط من أجل نوايا هي بالطبع ليست نوايا جيدة ولن تُضفي على حياتنا فائدة ولو بشكل قليل. 

بدايةً، أحب أن أشير إلى –تزعزع– كتعريب لكلمة (insecurity) الإنجليزية، والتي بدورها تعني الشعور بالإختلاف عن الاخرين بطريقة سلبية ودونية، أو الشعور بعدم الإنتماء للمكان الذي يجب أن ننتمي إليه. هي بالمختصر كل الحركات والتوقعات السلبية التي جاءت نتيجة تزعزع ثقتنا بأنفسنا


كيف وصلنا لهذه النقطة؟

لماذا على النساء أن يشعرن بالسوء أو يقللن من تقدير جاذبيتهن؟ ولماذا يجتهد الجميع للحصول على شكل أجمل وليس أكثر صحة؟ 

إن الضغط على النساء للوصول للجسم المثالي أو الوجه المثالي بغض النظر عن عدم وجود هذا الشيء من الأساس قد أنشأ لنا أجيالاً تعيش على المقارنات والتزعزع والانتقاد الداخلي.  

في التاريخ كانت أجساد النساء تعتبر وسيلة الإنقاذ الوحيدة في زمن مُسَيطَر بالكامل من قبل الرجال، فكان شكل الوجه والجسد ومدى تقارب الملامح من المعايير التي وضعت بسبب سُلطة ذكورية سبباً من أسباب القوة آنذاك، ولا يخفى على أحدنا أنها مازالت تعتبر شكل من اشكال القوة في الوقت الحاضر أيضاً بسبب عدة موجات او حركات تُروج لفكرة أو فكرتين حول مايجب أن يكون الشكل عليه، كل ذلك يعكس صورة حتى وإن كانت بسيطة عن المجتمع، أو ربما العالم أجمع والأفكار التي بدأت تتناقل بيننا، فيلجأ الناس لمواكبة كل هذه الموجات والمعايير لرغبتهم بالشعور بالقبول، القبول من المجتمع، الأهل الأصدقاء أو أيا يكن. 

تقول نور صديقتي: “دائماً ما تخبرني والدتي كم أبدو سمينة، أو أن بعض الملابس لا تناسبني وتجعلني أبدو قبيحة، أعلم أن تعليقاتها هذه لم تكن نابعة من كراهية لكنها تؤلم وتجعلني دائماً مترددة للمضي قدماً في مواقف بسيطة كمقابلة شخصية أو حضور مناسبة عائلية. إن الخطوة الوحيدة التي أتخذها تجاه هذا الموقف هو مقارنة نفسي بالعارضات وبالمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي.”

حين نقارن أنفسنا، أو حتى عندما يشار إلينا بذلك تبدأ هذه الزعزعة فيلجأ معظم الناس لدفع الكثير لإخفائها أو التخلص منها، آلاف الدولارات تصرف من أجل عملية أو اثنتين هدفها إعادة تشكيل الشخص ليتوافق مع هذه المعايير ظناً منه أنه سيكتسب الثقة والقبول من خلالها، أو حتى إخفائها عن طريق إلقاء النكت حول نفس الموضوع لنظهر بصورة غير مكترثة أو بصورة مستقرة أكثر مما نبدو عليه داخلياً. 

العالم يبيع ويشتري من خلال تزعزعك الداخلي

الخبر الجيد هو أن الجميع لديه هذا التزعزع بأوجه ودرجات متفاوتة سواء على أمور ملموسة كأجسادنا أو أمور معنوية كثقافتنا وتعليمنا، أما الخبر السيء فهو أن الجميع أيضاً يبيع ويشتري من خلال هذا التزعزع.

تضيف نور على كلامها السابق: مقارنةً بأختي فآنا أصرف أكثر منها في منتجات أعتقد في داخلي أنها ستجعلني أبدو بشكل أفضل، ففي كل مرة أشعر بالسوء ألجأ للشراء.

إدوارد بيرنيز الأب الروحي للعلاقات العامة والبروباغندا لم يكن يؤمن أن البشر يتخذون قراراتهم بطريقة عقلانية، بل على العكس تماماً، كان مؤمناً أن معظم قراراتهم تأتي بمستوى عاطفي وغير واعي، وهنا جاءَت أفكاره التسويقية لعدة منتجات لم تكن مرغوبة في المجتمع من الأساس كاستخدام السجائر من قبل النساء.

لذا فيمكننا أن نستنتج أن الناس تميل لشراء منتج يحل مشكلة ما، وأن معظم الشركات تميل لصنع المشكلة أولا قبل عرض المنتج، صحيح؟ 

تقول لي صديقة متخصصة في التسويق أن معظم خطط التسويق تقوم عن طريق الإشارة إلى نقطة حساسة عند الناس وجعلهم ينظرون إليها بشكل أسوأ قبل عرض المنتج عليهم وأن معظم التوجهات التي نعيشها بشكل روتيني حولنا هي بالحقيقة شكل من أشكال التسويق.

ببساطة، لو كانت نظرتك لجسدك أو ملامحك متزعزعة، سيربح المجتمع من خلال أدوات التجميل والعمليات التجميلية التي ستلجأ إليها، وأنا لا أقول هنا أن كل من يستخدم أدوات التجميل أو يلجأ لبعض –المكملات كما يقولون– هو صاحب ثقة متزعزعة! إطلاقاً، لكن هذا لا ينفي وجود شخص واحد على الأقل يفعل ذلك لهذا السبب وهذا هو نفسه الشخص المحبوب من قبل كل الشركات. 

وأنا لا أقول ايضاً هنا أن جميع الشركات والعلامات التجارية تدفعك لكره نفسك لتسويق منتجاتها عليك، لكن من يستطيع إنكار أن الغالبية العظمى هم كذلك؟ أبسط مثال يمكن ربطه هنا هو الإعلانات التجارية في التلفاز التي خرجنا لهذا العالم معتادين عليها: إعلانات إزالة الشعر وكيف تستخدم العارضة في الإعلان شفرة على بشرة ملساء خالية من الشعر منذ البداية 

أو حتى إعلانات منتجات الشعر التي تجلب للمشاهد إعتقاد ضال يوهمه أن الشعر الأملس الناعم هو الشعر الجميل أما غيره من أنواع الشعر المختلفة نتيجة لاختلافاتنا الجينية والبيئية فهو يحتاج لحل، وأين هذا الحل ؟ في هذا المنتج السحري المعروض في الإعلان. 

كوني طبيبة أسنان فأنا أشهد بعض المواقف التي تؤكد لي صحة هذا التأثير، ولعل أقربها هو ما حدث قبل عدة أيام حين أخبرتني قريبتي أن أختها تتجنب الحديث معي بسبب شكل أسنانها التي تظن أنها ليست الأسنان المثالية التي تصنع لها ابتسامة جميلة مثل مشاهير هوليوود. ودعني أعطيك معلومة هنا قد تكون مُفاجئة بالنسبة لك: لا يوجد شيء اسمه ابتسامة هوليوود، لا تدع إعلان كهذا يوهمك أن وحدها ابتسامة نجوم هوليوود هي من يطلق عليها ابتسامة جذابة. في الحقيقة، عدسات الفينيير لم تُصنع لجعل ابتسامتك تبدو مثل ابتسامة مشاهيير هوليوود، بل صنعت لعلاج بعض الحالات كالكسور والتسوسات والتصبغات، أما دون ذلك فابتسامتك تكفي ! كذلك شكل حاجبيك وامتلاء شفتيك وحِدة فكيك.  

كونك إمرأة هذا مكلف للغاية

حري بنا أن نذكر أن نصف المجتمع يقوم بالدفع مقابل عدة منتجات وخدمات أكثر من النصف الآخر. هل سبق وتساءلت: لماذا منتجات النساء مُكلِفة أكثر من منتجات الرجال؟ ليست المنتجات وحدها بل حتى الخدمات مثل الصالونات والأندية الرياضية؟

إن التسويق لبعض المنتجات يقوم على فن التلاعب بدءاً من لون المنتج وانتهاءً بسعره، فشكل المنتج وتصميمه اللطيف مثلاً ماهو إلا خدعة تسويقية أخرى لجعله نسوي أكثر، أو مرغوب أكثر من الفتيات، وهنا جاءَت حركة الضرائب الوردية أو الـ Pink tax. 

الضرائب الوردية جملة تشار إلى المال المضاف التي تدفعه السيدات مقابل خدمة أو منتج، ويطلق عليه أحياناً بالتسعير الجندري أو التمييز السعري. فبعض المنتجات يزيد سعرها بما يقارب ٨٪ أكثر من نفس المنتج الذي يختلف عنها بالشكل واللون فقط. لنأخذ شفرات الحلاقة كمثال بسيط، الشفرات الوردية والتي يتم تسويقها على أنها ألطف وأكثر نعومة على البشرة هي نفسها الشفرة الزرقاء من نفس الشركة وبنفس المادة، إن الفرق الوحيد هو اللون والسعر فقط.

ولا يقتصر الموضوع على اختلاف التسعير بنفس المنتج، بل حتى المنتجات التي لا تستخدم سوى من قبل النساء مثل منتجات الحيض والفوط الصحية فقد تم تصنيفها على أنها منتجات مترفة أو كمالية تُفرض عليها القيمة المضافة وكأنها منتج يمكن الإستغناء عنه. 

أنتِ وأنتَ وأنا لسنا مصدر ربح إن كان لدينا الوعي الكافي

الجميع يستحق أن يحيى حياة سعيدة ومستقرة نفسياً وأن يشعر أنه جميل وكافي ومقبول.

الثورة التي كانت يجب أن تبدأ قبل زمننا هذا بكثير عليها أن تبدأ الآن، وهي أن نحب أنفسنا تماماً كما هي دون الشعور بالحاجة إلى بعض التغييرات والتعديلات، المهم هنا هو أن تتقبل نفسك أولاً وقبل كل شيء وأن تصب جهدك وقلقك في جعل جسدك يبدو بصحة جيدة يخدمك بالشكل المطلوب لتعيش حياتك كما يجب لا كما يجب أن يراه الناس.

في النهاية، أنا لا أقترح عليك عزيزي القارئ أن تتوقف تماماً من شراء كل المنتجات، لكن أقترح عليك النظر إليها بموضوعية تامة وسؤال نفسك (هل حقاً أنا أحتاج هذا المنتج؟ ما الدافع الرئيسي لشرائه؟ هل لأني أعتقد أنه سيجعلني أشعر بالقبول أو لأني أود امتلاكه فقط ؟)