إنجي الطوخي
إنجي الطوخي

د

لا أخجل.. نعم كنت أخاف الطهي!

يحكى أن..

بعد أن ظهر فيروس كورونا، وساعات الحظر الطوال، لم يعد الحال كما كان،  سكن الجميع داخل البيوت خوفا، بعد أن خلت الشوارع من الناس غصبا،  وبحثا عن بعض السلوى، عادت نسوة المدينة فى كل بلد إلى المطبخ.

 وبين الملمس الناعم للدقيق الأبيض وحركة “الناشبة” التى لا تتوقف، ونار دافئة للقلوب قبل البيوت، صارت تُصنع أشهى الأكلات، وتسربت تلك الروائح الشهية فى الشوارع وأكثرها للكعك. وصار الجيران يستمتعون وهم يحزرون هل الكعكة اليوم بالفانيليا أم بالشيكولاته؟!

وكانت وسائل التواصل الاجتماعى وسيلة للتنافس بشأن عدد الكعكات التى صنعتها كل امرأة خلال الأسبوع، فالأطفال والرجال التفوا حول “السفرة” من جديد، وبات صنيع يد المرأة يقدر بكثير من الحب، وتلقى عليه كلمات الشكر والامتنان.

الطهى ونسوة المدينة..

  لكن هل نهرب نحن النساء للطهى عندما نخاف من الحياة والوقوع فى براثن واقعها الجاف؟! أم أن الحياة هى التى تخافنا فتدفعنا نحن نون النسوة إلى الطهى لإظهار قوتنا أمامها؟!!
لا توجد إجابة، أو يمكن كلا الإجابتين صحيح،  فالأمر أشبه بلوحة احتار الجميع فى تفسيرها، بينما يعرف الرسام  فقط تأويلها….

ولكن فى الحقيقة خلال أيام الحظر، ومع كثافة الحديث عن الطهى، كل ما طرأ على بالى هو تجربتى فى الطهى، وذلك الخوف  الذى تم بثه فىً منذ الصغر، أننى لن أكون أنثى أبدا، مهما فعلت فى الحياة، إلا إذا أتقنت الطهى…ولكن هل فعلا هذا الاعتقاد”صحيح؟!

البداية فى التسعينيات: إعلان “حلة” لا يلتصق بها الطعام..

من إعلانات التسعينيات الشهيرة، إعلان “حلة الطهى” الحديثة التي تساعد المرأة على الطهى، فتستطيع من خلال تكنولوجيا حديثة بها، معرفة متى انتهى طهى الطعام دون أن يحترق منها، كان الإعلان يشد انتباهى بشدة، رغم أننى لم أكن أتجاوز الـ5 سنوات.

ما كان يصنع بداخلي حالة من الدهشة، هو الحديث عن المهارات التي يجب أن تتوافر للمرأة من أجل صنع الطعام، فالإعلان يؤكد على أن أي سيدة تحتاج إلى حاسة شم قوية لتعرف متى ينضج الطعام، وسمع حساس لتسمع صوت “غليانه” وبصر حاد لتراه، كل ذلك بشكل ساخر وجذاب، وقتها ترسخ في ذهني أن الطهو يحتاج إلى مهارات خاصة وبدأت أسأل نفسى هل أملك تلك المهارات؟ .

منذ هذه اللحظة، وبدأت تتشكل علاقتي بالطهى، وهى علاقة لم تكن تسير بشكل جيد، وحتى وقت قريب كنت العلاقة تأخذ شكل الخوف، فأنا بحسب المجتمع وبعض أقاربي سأكون غير كاملة إذا لم اتعلم الطهو، وظلت تلك الكلمة “تخفيني” حتى بعد أن كبرت.

أول تجربة: سد الحنك

كانت أشبه بالمغامرة، عندما قررنا وأبناء خالي ولم نكن نتجاوز سن الـ7، استغلال غياب جدتنا عن المنزل، وطهى تلك الوجبة التركية والتي سمعنا عنها من جدتنا “سد الحنك”، كنا نريد أن نعطى لتجربتنا شكل جديد، فقررنا استخدام “الباجور” الذى  تستخدمه جدتي  للتدفئة فقط بدلا من “البوتجاز” !

النهاية المأساوية الكوميدية كانت النتيجة، عقب احتراق مكونات الوجبة، ومحاولة إخفائها عن جدتي بأي شكل ممكن بعد عودتها من السوق، وزاد حاجز الخوف بداخلى من ذلك الشئ الذى اسمه الطهى.

ثم تقول الأسطورة “عودى البنت على الطبخ من صغرها”..

السمع شكل بعد ذلك علاقتي بالطهي، فقد كان بعض أقاربي يؤمنون أن الفتاة يجب “تعويدها” على الطهى منذ صغرها، وكنت أسمع منهم من يباهي بقدرة بناته على طبخ عشرات الأصناف المعقدة في سن صغيرة، مما جعل الفكرة التي تترسخ في ذهني هي أن الطبخ شيئا عظيما خارقا ومن يفعله أكيد شخص خارق للعادة! .

و بدا الخوف يتشكل من بعبع “الطهى”.

كان حاجز الخوف بيني وبين الطبخ يعلو سنتيمترا وراء الآخر بفعل ما أسمعه.

ونظرة من حولى – باستثناء أبى-  أن  تعلم الطهى  واجب الأنثى الأساسى منذ ولادتها، أو “أنه اقرب طريق لقلب الرجل”، وأن تقدير المرأة ممن حولها يتم بحسب إتقانها للوجبات التي تطهوها، تضخم هذا الحاجز في نفسى، وجعلت الطهى أشبه بامتحان آخر العام الذى علىً أن أدخله لأصب فيه ما حفظته بغض النظر عن  أحببته أم لا؟ المهم  النجاح،  فتحول إلى  بعبع أهرب منه لأنه  قد يحكم على أنوثتي بالفشل التام، وعفريت ضخم أقاومه بالرفض لأننى اخشى أن يلفظنى من عالم نون النسوة ويضع علامة على ورقتى بأننى غير كاملة!

تجارب الخارج غيرت نظرتى للطهى..

لكن تجربتين مررت بهما غيرتا نظرتي للطهى، الأولى عندما سافرت خارج مصر، ورأيت كيفية التعامل مع الطعام، كنظام غذائى يومى لتحويل مجموعة من المكونات إلى وجبة شهية ومفيدة فى نفس التوقيت.

وكانت أهم الدروس أن الطهى ، فن لا يجيده أي شخص، ومن يتقنه يجب أن يكون لديه الشغف به، وأي وجبة تصنعها عليك أن تكون على معرفة جيدة بمكوناتها، وكيفية طهيها، وأهميتها للصحة، بل وعلاقتها بالطبيعة الأم! .

وقدرت معنى كلمة طعام، فهو وإن بدا للبعض مجرد وجبة نأكلها سريعا خلال روتين الحياة اليومى، إلا إنه  في الحقيقة جزء من الهوية، فلكل بلد عاداته وتقاليده في الطهى، وهو ما ينشأ عليه المرء، ومهما سافرت وابتعدت لن تجد مذاقا حلوا سوى طعام بلدك الذى تعودت عليه، فما بالك وإن كان بلد مثل مصر يشتهر بتاريخ ضخم من الأكلات، وتراث خاص فى المشرق كله.

أما التجربة الثانية، فهو تجربة حضور مؤتمر لـ13 مطبخ من كافة بلاد العالم داخل مصروالمنافسة بينها، والمقارنة بين أنواع الطعام المختلفة من خلال التذوق، كان الأمر ساحرا بحق،  كنت أذوق نفس الطبق من خلال أكثر من طاه من دول مختلفة، وكأننى ألف بلاد العالم بينما أنا فى مكانى، وكان أكثر مثيرا للدهشة هو طعم الدجاج الذى يختلف من المغرب إلى مصر إلى لبنان.

كان ما تعلمته مربكا، و”يخض”، أمام التقاليد التى ترسخت فى مجتمعنا بخصوص الطهى فى مختلف طبقات المجتمع، فعندما تدخل المرأة المطبخ، فهي غير مطالبة بفهم ما هو الطهى أو أنواعه، هل ما تطهوه مفيد للصحة أم لا؟ هل إذا طهت وجبة معينة مليئة بالدهون فأنها بذلك تدفع عائلتها للمرض دفعا أم لا؟ حتى أبسط التعاليم الدينية المتعلقة بالطعام قد تكون غير معروفة. المهم أن تخرج الوجبة التي تسد الجوع بلا إبداع أو تفكير!- تغير هذا قليلا مؤخرا مع انتشار مفاهيم الثقافة الغذائية بين الأجيال الجديدة.

وصرنا ..“ناقر ونقير”


علاقتى بالطهى تحولت إلى ناقر ونقير

بعد هذه التجربتين، تحولت علاقتي مع الطهى إلى ناقر ونقير، قررت أن اخوض التجربة، واتحدى خوفى، ولكنه لم يكن أمرا مبشرا في البداية، فمهما حاولت أصنع من الوجبات، فلا أحظى بالمذاق الجيد، أحيانا لا أستطيع ضبط الحرارة فتحترق منى الوجبة بالكامل، أحيانا ملحها ناقص، أحيانا تصبح هشة زيادة، وأحيانا “معجنة”، وأحيانا لا “تؤكل” من الأساس.

 ومع أنى كنت أطهو الوجبات العادية التي يطهوها الجميع إلا إنني لم أنجح بشكل كامل، حتى قررت آخذ طريق آخر وهو طهى ما أحبه حقا،  الكيك والحلويات، وهنا  تحقق لى النجاح أخيرا، وأدركت أن لكل مجاله، وأن الطهى عبارة عن مزيج من الحب والإبداع، عليك فقط أن تدرك الجزء الذى تحبه لتبدع فيه.

بعد الزواج .. كانت حماتى..

ساحرة هكذا رأيت حماتى فى المطبخ، فمهما كان الطبق الذى تعده تقليديا ومكوناته بسيطة، إلا أنه دوما شهى جذاب، رائحته ذكية، تعرف أقدم الوصفات المصرية والتاريخية، التى نادرا ما يعرفها الأجيال الحالية، تدرك أن لكل مناسبة مصرية وصفة معينة تطهى بطرق محددة، هل سمعتم من قبل عن “فتة الحلبة” أو الكوسة بالنعناع والحمص؟!، والأهم أنها تحرص جدا على الطعام الصحى، فنقطة الزيت أو السمن لها حساب شديد، من شدة حرصها أشعر أنها قد تقيسها بميزان حساس.

فى بداية الزواج، كنت الأمر مضحكا، نتحدث نحن الاثنتان بلغة مختلفة، أنا أحب الطعام الإيطالى، وأكره روتين المطبخ المصرى، بينما حماتى ترى المطبخ ليس مجرد طعام لسد الرمق، بل هو نفًس، مشكل أساسى لحياة الأنسان ويؤثر على كل شئ آخر فى حياته، تدريجيا بدأت أفهم لغتها، فتعلمت منها الكثير.

كانت حماتى تطبق تلك الأنظمة العلاجية الحديثة التى تعتمد على الطبيعة الأم والطعام، مع جعل الأدوية والمواد الكيمائية هى آخر خيار لدى الإنسان، ففتحت عينى على عالم آخر لم أدركه يوما للطهى، وهو ما حاولت تنشره ليس فقط بين أبنائها وأفراد عائلتها بل بين أقاربها.

جعلتنى حماتى أرى المطبخ بشكل آخر، وأننا لا نعيش لنأكل، بل نأكل لنعيش، وأننا علينا أن نستمتع بطعامنا حتى آخر قطعة فيه، ولكن بعد أن ندرسه جيدا، والأهم علينا أن نعامل الطعام والطهى بـ”أتيكيت”.

الطهى = شغف وابتكار و”نفس”

فى النهاية الطهى عالم كبير، إذا دخلنا من بوابته الضخمة، قد نحتاج إلى سنوات طوال لنصل إلى نهايته، وإذا  تعاملنا معه على أنه وظيفة، فلن نبدع أبدا، وسنشعر بالملل سريعا.

 والوصف الحقيقى للطهى يظهر فى العامية المصرية بتلقائية  فى “نفس”، وهى كلمة تشير إلى معنى خفى  ورائع أن الطهى  فن لن يتقنه الجميع، أو أى شخص، بل فقط من حباه الله بتلك الهبة، فهناك من يحب الطهى وهناك من لا يحبه، بل هناك من يتقن بعض فنونه مثل الحلويات أو المشويات، بينما لا يتقنها البعض الآخر.

 وهذه الحقيقة يجب أن نسلم بها، نرسمها على الطرقات، ونضعها بجانب أشارات المرور، ليراها الجميع، فصنع الطعام ليس هو واجب المرأة الوحيد فى الحياة، نجعلها ترهن حياتها من أجله، فإذا كانت فتاة صغيرة لا تدرك من الأمر شئ، نقتل مواهبها بحجة أن هذه هى التقاليد، وكم من صغيرة كان لديها المواهب، التي من الممكن أن تغير  حياتها أومجتمعها، ولكن من حولها أكدوا لها أن دورالمرأة هو إجادة الطهى فقط، فراحت تلك المواهب طى النسيان، فأصبح الطهى وسيلة لإرهاب المرأة وفى بعض المجتمعات السيطرة عليها، وليس طعاما شهيا يبهر العين والنفس.

أما الآن وقد نجحت فى تخطى مرحلة “الناقر والنقير” مع الطهى، وبدأت فى صنع بعض الأطباق الشهية التى تلقى الإعجاب، فقد أدركت أن الأسلحة الحقيقية لمواجهة بعبع الطهى هى الشغف ثم الشغف ثم الشغف وبعد ذلك الابتكار والرغبة فى التجربة والقراءة المستمرة، وليس فكرة الواجب أبدا.

 كما تأكدت أننى كنت سأضيع من حياتي الكثير إذا استجبت لتلك الكلمات القائلة بأن  “الفتاة ليست أنثى إذا لم تتعلم الطهو”، أو “أن أقرب طريق لقلب الرجل هو معدته”! فالمجتمع الذى يركز على “معدته” دون التركيز على “عقله” أو حتى يوازن بين الاثنين لن ينجح أو يتقدم بالتأكيد!.