هادي الأحمد
هادي الأحمد

د

لماذا كل هذا الاهتمام بجوردان بيترسون؟

لا أكذب إن قلت أن جوردان هو أحد الأشخاص الذين امتلكوا تأثيراً كبيراً على طريقة تفكيري في هذه الفترة، ليس لأنني أتفق مع كل ما يقوله -فهناك الكثير من النقاط المحورية التي نختلف فيها- وإنما بالطريقة التي يقدم فيها أفكاره ويحاول نقاش الأفكار المواجهة، كيف يتعامل مع المواقف المختلفة وكيف يختار الوقت المناسب والمكان المناسب للحديث والصمت، الغضب والسكون، لينتهي به الأمر بالحصول على الفائدة الأكبر مما يحدث.

ربما يكون هذا الإعجاب تجاهه مشابهاً بإعجابي بشخصية إيلون ماسك، كلاهما شخصان يعرفان جيداً طريقة سير الأمور في عالمهما الخاص، وكيف يمكنهما لعب اللعبة بالطريقة الصحيحة للحصول على ما يريدانه. ماسك ربما يقوم بهذا بطريقة عفوية دون أن يظهر تخطيطه للجميع وهذا ما يجعل محاولة فهم ما يقوم به أكثر صعوبة، بينما جوردان يقوم بهذا بطريقة أكثر انفتاحاً ومباشرة وصراحة؛ بطريقة يمكن لأي مشاهد خارجيّ فهمها.

يذكر جوردان بصراحة في مقدمة كتابه الذي جلب له الشهرة “12 قاعدة للحياة” بأنه كتب الكتاب بعد أن أدرك أن هذا النوع من المحتوى محبوب من طرف القراء، سواء كان الحديث عن صيغة القائمة البسيطة التي يمكن تلخيصها في صفحة واحدة، أو عن صيغة كتب المساعدة الذاتية، أو التنمية البشرية إن صح تسميتها بهذا الاسم. هو يعلن في بداية كتابه، الكتاب الأكثر مبيعاً في كثير من الدول، أنه قام بكتابة هذا الكتاب وهو يعلم تماماً أنه سيحقق نجاحاً باهراً، أنه سيكون مصدراً جيداً للدخل الماديّ، وأنه سيكون مقبولاً أكثر من طرف القراء مقارنة بكتابه التخصصي الآخر “خرائط المعنى”.

هذا النوع من المباشرة والصراحة من الأشياء التي تجعلني أستمع لما يقوله هذا الشخص بطريقة أكثر دقة، فهو يعني ما يقوله ولا يحاول إخفاء أي شيء؛ في إحدى المقابلات المتعلقة بكتابه يصف نفسه بكل صراحة بأنه رأسماليّ (عودة أخرى للسياسة) وأنه لا يجد هذا مخجلاً. المثير للسخرية أن هذا التصريح ليس “مثيراً للجدل” في المعنى التقليديّ ولكن النظرة للرأسمالية – حتى في الدول الرأسمالية ذاتها تتعرض لتشويه ليكون أي شخص مساند للرأسمالية “شريراً” افتراضيّاً.

ربما من الجيد ذكر القليل من السياق عن جوردان بيترسون لمن لا يعرف الكثير عنه؛ جوردان بروفيسور في علم النفس في جامعة تورونتو في كندا، بدأ يثير الجدل بعد اعتراضه على أحد القوانين التي أصدرتها الدولة لإجبار الهيئات والمؤسسات والعاملين فيها على مخاطبة مختلفي الجنس -الأشخاص الذين يرون أنفسهم خارج فئتي الذكور والإناث التقليديتين- بالضمائر التي يرغبون بها، تحت مظلة القانون.

ما لم يعجب جوردان في هذا القانون هو أنه يفرض عليه وعلى أعضاء الهيئة التدريسية الآخرين أن يستخدموا كلمات محددة للحديث، تحت طائلة الغرامة المالية. جوردان لم يستسلم لهذا القرار وحاول مقاومة تطبيقه لينتهي به الأمر في مرمى نيران محاربي العدالة الاجتماعية في الغرب باتهامات بكونه معادياً للأشخاص مختلفي الجنس والأشخاص من الأقليات العرقية.

تعرض للكثير من حملات التشويه الفاشلة، قام الكثير من “محاربي العدالة الاجتماعية” بنعته بالنازي، أو هتلر، أو الهوموفوب، ولكن في النهاية كان جوردان يتلقى الدعم من آلاف المتابعين على يوتيوب وبيتريون والكثير من المواقع الأخرى.

وإن لم تفهم أي كلمة مما سبق، أنصحك بالاطلاع على المشكلة من بدايتها – القصة موثقة بشكل جيد على يوتيوب على قناة جوردان بيترسون الشخصية والكثير من القنوات الأخرى، وفيها الكثير من التفاصيل التي لم أذكرها.

طريقة تعامل بيترسون مع هذا مثيرة للاهتمام، يمكنك مشاهدة أي مقابلة له مع أي قناة ترغب بتشويه صورته على التلفزيون، كالمقابلة الشهيرة مع الصحفية كاثي نيومان التي جعلت شهرة جوردان تحلّق حتى خارج كندا حول العالم، بيترسون يبقي على هدوئه في خضم أسخف الأحاديث، على الرغم من كونه شخصاً -بحسب تعبيره الخاص- يعاني من مشكلة ضخمة مع الطباع الحاد والعصبية.

كشخص أعاني من مشاكل في الطباع الحاد أحياناً، مشاهدة شخص يعاني من مشكلة مشابهة يمر بهذا أمر مثير للاهتمام حقاً، شاهدت الكثير من التحليلات التي تدرس طريقة موضعته ليديه، حركته، جلسته، وطريقة كلامه أثناء تلك المقابلة، وكيف ساهمت هذه الحركات الجسدية بإبقائه هادئاً حتى في موقف هزلي كذاك.

في مواقف أخرى، كموقفه المشهور أمام الجمهور في الجامعة حيث ظهر “الجانب الغاضب” منه للعلن، يمكنك ملاحظة أسلوب إخراج هذا الجانب دون أن يؤثر على نظر الجميع له، على العكس، لينتهي الموقف بتصفيق حار من الحضور لما يقوله، على الرغم من كونه يقوله بلهجة غاضبة.

وهذا ما جعله “ينتصر” بشكل أو بآخر في معركته الأولى، وبالنهاية في الحرب التي شنّها الإعلام عليه لمحاولة تشويه صورته؛ باستخدام الهدوء والغضب في الوقت المناسب. وهذا ما جذبني إلى متابعة مقابلاته بطريقة مختلفة، ليس لسماع ما يحاول قوله فحسب -ولو كان هذا جزءاً من أسباب استماعي ومشاهدتي لمقابلاته- وإنما لمحاولة فهم الطريقة التي يتحكم فيه بنفسه، كيف يبقى هادئاً في المواقف الحرجة، وكيف يترك مشاعره لتسيطر في الوقت المناسب.

أمر آخر مثير للاهتمام بأمر جوردان أن ما يقوله أحياناً يقارب حدود الجنون وقد يصل لمستوى نظريات المؤامرة، وفي كثير من الأحيان هذا ما يجعلني أبتعد فكرياً عما يعتنقه هو، ولكن في نفس الوقت يبقى “منطقياً” بما يكفي لتكون قادراً على متابعة الاستماع حتى النهاية، ولو لم تقتنع بما يقوله بالكامل.

وأضف لهذا، ما دفعني لمتابعة المشاهدة والاستماع لآراء جوردان حتى الآن، على الرغم من معرفتي أن نسبة كبيرة منها لن توافق قناعاتي ولن تغيرها – السبب هو الطريقة التي يفكر فيها جوردان بالمشاكل الموجودة في المجتمع، بردّها إلى أصولها ومحاولة خوض نقاشات جادة متعلقة بها، كمحاولة شرحه المشكلة في نظرة الغرب إلى الفجوة في الكسب بين الرجال والنساء، وكيف أنها مفهومة بشكل خاطئ وأنها لا تعتمد فقط على “جنس الشخص” وإنما على العديد من العوامل الأخرى التي تجعل المتوسط لما تجنيه النساء أقل من ذاك للرجال.