مصطفى يعقوب
مصطفى يعقوب

د

ماذا يقول المكسيكيون عن المحيط الهادي

“-آندي دفرين: هل تعلم يا ريد ماذا يقول المكسيكيون عن المحيط الهادي؟

-ريد: لا..

-آندي دفرين: يقولون إنه بلا ذاكرة..هذا بالضبط المكان الذي أريد أن أقضي فيه بقية حياتي..مكان دافئ بلا ذاكرة..”

هذا الحوار من فلم إصلاحية سجن شاوشينغ (Shawshing redemption) احتجت لسنوات لفهم معناه لدرجة أنه أصبح بالنسبة لي فلسفة حياة..

حينما أفكر بأصل تعاسة البشر أجدها دائما تكمن في الذاكرة..من المستوى الفردي و الشخصي لمستوى المكان والعقل الجمعي.
فالذاكرة هي التاريخ..

ثقل التاريخ الذي يحمله المكان ويحمله أبناء المكان بدورهم أيضاً منذ لحظة ولادتهم ليثقل قلوبهم و يحني ظهورهم ويحملهم أوزار الماضي وأحقاده و ثاراته..

كل بقعة جغرافية فوق سطح هذا الكوكب يثقل فيها التاريخ ستكون مكاناً تعيساً للحياة.. فالذاكرة هي صوت الماضي و صرخات من ماتوا ودفناهم في ثرى المكان.

الذاكرة هي ما يؤجج الانتقام..

الذاكرة هي العائق الوحيد الذي ينتصب بوجه الغفران..

الذاكرة هي الوهم الذي يمنحك السلطة لتعلن امتلاك الاشياء و المكان..

من أنت لتعلن امتلاك المكان؟

من أنت أيها العابر في سبيل الحياة لتعطي نفسك حق الامتلاك لأي شيء في هذه الحياة؟

المكان موجود منذ آلاف الملايين من السنين، وتعاقبت فوقه ملايين الكائنات الحية التي اندثرت ولن تعلم عنها شيئا..

ربما الهروب من الأمكنة المثقلة بالتاريخ والذاكرة هو من دفعني لترك العالم القديم مهاجراً هارباً إلى العالم الجديد…

أجمل مافي العالم الجديد هو أنه بذاكرة أخف، والتاريخ لم يضرب بعد جذوره عميقاً في قلب المكان..

العنصرية وكراهية الآخر الذي يشاركك المكان لها أسباب كثيرة متعلقة بالذاكرة.. فالمكان المثقل برائحة التاريخ الذي يحتضن قبور أجدادهم و رائحة دمائهم التي سفحت فوق ترابه لعشرات المئات من السنين ..

حتى هنا في الولايات المتحدة الأمريكية بدأت الذاكرة تتشكل لتثقل معها المكان فتزيده عنصرية و تعاسة على الهاربين من الذاكرة من أمثالنا..ومنطق العنصريين دائما هو الذاكرة، فيقولون لك: هذه أرضي وأرض آبائي و أجدادي سأقتل كل من يحاول تهديدها، لا تأتوا لأرضنا ابقوا حيث أنتم..

منطق الذاكرة يضفي على المكان ظلال التعاسة و الاحقاد.

سأسعى كما آندي دفرين لأعيش في تلك القرية المكسيكية الصغيرة التي ترتاح غافية على ساحل الباسيفيكي الهادئ الدافئ بعيداً عن صخب العالم والتاريخ..

سأموت بجانب ذلك المحيط المصاب بالزهايمر الذي ينسى أسماء ساكنيه و زواره ولا يميز بين وجوههم..

وحينما أموت لا أريد قبراً… لا أريد شاهداً جديداً للذاكرة..

سأوصي بحرق جثتي ونثر رمادها في أعماق المحيط العظيم الذي بدأت منه حكاية الحياة، والتي يجب أن تنتهي عنده كذلك..