مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

جدتي إرثنا الوحيد من الوطن

تدوينة: سماح اليونس

كانت تجلس وحدها على الأريكة وكأنّ خطبٌ أصابها،  تغفو مرة وتمنع عيناها من النّوم مرات،  ترتدي زيها الذي حاكته غُرزةً غُرزة،  في بريقِ عينيها تجدُ ألف قصة،  حتّى وإن محتها السنّين لن يُزيلها مخزن ذكرياتها … دموعها تسقط دون استئذان،  دون أن تُحاول البكاء،  لتجاعيد يديها قصصٌ سطعت عليها شمس ألمها،  تتذكّر كُلّ الحدث بدقّة،  وكأنّه بالأمس حدث،  كُلّما سُئلت عن وطنها المكلوم لا تُجيب بل تسقط ابنة عينها ألف مرّة،  تكاد تنسى شعرها اللّامع تحت الشّمس والمُجدّل كيافا والممشوق كعظمةِ عَكّا،  عيناها اللتان جوفهما تلوّن بالوطن،  وثغرها المُبتسم دائماً يشرق كُلّ يوم،  لقد كانت جدّتي جميلةً جدّاً لدرجة أن الوطن لم يستطع حملها حتّى نفاها إلى أطرافه.

دير ياسين محطّة الألم

تذكُر ذلك جيّداً،  حينما سمعوا عن مجزرة دير ياسين وعمّا أحدثته العصابات المُسلحة هناك، رفضوا الرّحيل،  لكنّ الخوف نازعهم إليه،  كانوا مُتأملين من العودة بعد يوم أو يومين أو رُبّما عشر! وإن طالت الأيّام فلم تصل إلى حدّ العام الواحد…

هُنا كانوا جالسين مُتكئين على أرضٍ خُطط لها بالتّقسيم والانقلاب؛ ولم يحدث ذلك سوى بهدر دماء السّكان أو ترحيلهم قسراً.

دفعهم الخوف على الأطفال والنّساء،  كي لا يُقال عنهم فيما بعد بأن شرفكم هُدر،  حملوا الأقلّة من أغراضهم وتركوا بياراتهم التي ثمارها لم تنضج بعد،  ومزارعهم التي مواشيها قتلوا على الفور،  لم يحملوا سوى آمالهم بالعودة القريبة… هُم انسحبوا ودخلوا النّجس بعنفوانٍ حاد وقلوبٍ لا تسكنها الرّحمة وباشروا بالقتل،  من استطاع أن ينفذ نفذ،  ومن نفدت إليه آلية الحرب نفد و أُبيد.

لم يركن والدها ليرحل،  فجلس وبكى بُكاء صغار المهد وأبى الرحيل،  لكن الخوف دفعه.

مرارة الهجرة والتّهجير

أيّامٌ قضوها في المشي،  اتّسخت أحلامهم،  ونُفيت عواطفهم،  كان هدفهم الهرب من الحرب،  مشوا بمُحاذاة رؤوس مقطوعة وأطرافٍ مبتورة،  عيون مخلوعة ودماء مهدورة، جُثث محروقة، خبط أقدامهم على  تراب مغسول بالدّماء،  واستنشقوا دخاناً متصاعداً للسّماء،  لا يملكون القوت ولا الماء،  كُلّ ما كان فعلهم هو  البحث مكان مُمتلئاً بالأمان.

حتّى وإن رحلوا فستبقى البلد بالذاكرة

تركوا بلدهم “لفتا” والتي امتلكوا بها الدونمات الشّاسعة من الأراضي،  وبيارات مُثمرة ومواشٍ مُنتجة،  لقد رحلوا وارتحلوا وتركوا الوطن الجميل ،  عاشوا في مُخيّمات قاسية بالية،  لا تسكنها الشمس ولا يرون الزمهرير منها،  مياه صرف صحي مشتركة مع الجيران ،  طعام قليل وبينهم حُبّ كبير ،  حاولوا إيجاد البديل لكن الروح التي تركوها هناك لا بديل عنها …

أُطلق عليهم لاجئون،  ومَلّكوهم كرت مؤن مُهترأ،  وورقة لجوء وإن محاها الزمن فسيبقى ألمها خالداً بهم! وإن طال الزّمان فلن ينسوا ذرة تراب الوطن.

كبرت جدّتي وألم الوطن أيضاً

كبرت جدّتي كثيراً،  وحب الوطن يكبر بداخلها أكثر فأكثر،  كبرت وكبرنا ولازلت تُحدثنا عن أرضها التي هناك،  وعن بيتها الذي تركوه،  وعن أحلامهم التي عُلقت على صدورهم وغُرست في فؤادِهم.

لم تلبث جدّتي لساعة وسرعان ما تذكر وطنها،  كيف ستنساه وهي ترعرعت في ربيعه ورضعت من حليبه؟

كيف ستنسى وطنها،  والكبار حينما تغدرهم ذكرياتهم يتذكرون الماضي بحذافيره وينسون الحاضر؟

من أيّامٍ قليلة لاثنين وسبعين عاماً على الهجرة

اثنان وسبعون عاماً على الغربة والاحتلال وذكريات الألم والطمس ومرارة التجهير وقسوة المُخيّمات عليهم …

توفيت جدّتي ومفتاح عودتها مُعلّقاً برقبتها ،  توفيت ووصيتها لنا بأن لا نكل ولا نمل حتّى تعود الأرض أرضنا …

رحلت جدّتي لكن الوطن لم يرحل وحُبّه لن ينضب مادام هناك قلبٌ نابض باسم “فلسطين” .

آه يا جدّتي اثنان وسبعون عاماً عجافاً على تلك المآسي التي تجرّعها ذاك الشعب تجلّت في ذكريات أجدادنا،  هم يكبرون ونحن أيضاً هم يروون رواية وجعهم ونحن من نتوجّع معهم لكنّ الطّريق لا يقف عنّا فنحن أيضاً سنروي لأولادنا وأحفادنا عن عظمة هذا الشعب الذي كنّاه القُرآن “بالشّعب الجبّارين” وكيف وإن طال الزمان فلن ننسى شبر أرض أُخِذ منّا قسراً ولو بنوا لنا قصوراً من الرمال…

اثنان وسبعون عاماً كافياتٍ لعدم النّسيان.

فهم يموتون ونحن نخوض ميلاد فكرتهم ونحيا بها.