بشرى المطيري
بشرى المطيري

د

روح الشعوب: مراجعة لكتاب أندريه سيغفويد

“…الحادي والثلاثون من كانون الأول/ديسمبر عام ألف وتسمعئة، أي بداية القرن الجديد. في تلك الأمسية من ذلك التاريخ على وجه التحديد تبادلنا التهنئة بكلمة (قرن طيب) بدلا من (سنة طيبة)…”

بهذا الاقتباس استفتتح مراجعة كتاب سيغفريد روح الشعوب والذي تناول فيه تحليل أمزجة الشعوب الغربية ونفسياتها.
لكن قبل ذلك أود أن أؤسس لنقطة تعلمتها من تخصصي (الذكاء الثقافي cultural intelligence) وهي مهمة جدًا في فهم الشعوب أو خصائصهم المميزة لأني كثيرًا ما أواجه تعليقات على شاكلة “بدون تعميم” نعم هذا صحيح، لا تعميم والاستثناء دائما حاضر هذه مسلّمة عقلية نفترض وجودها ابتدأ في شتى العلوم.
لكن عندما نقول أن خاصية شعب ما كذا وكذا، أو التجمع الثقافي الموجود في دولة كذا يكثر فيهم الانضباط أو البلاهة نحن نقصد أن هذه الصفة في هذه البقعة الجغرافية أكثر! ستجد أشخاص أكثر من أي مكان آخر يتصفون بها أو يتصرفون من خلالها.
أكثر تجمع (ممكن) لها، وليس تحلي الجميع فيها.
أتمنى أن هذه النقطة تفهم جيدًا.
قبل أن أبدأ بتفصيل محتوياته، أذكر لكم معنى روح الشعب الذي استخدمه أندريه، ويقصد به: “الطابع القومي الخاص بكل شعب” وَ “الروح الجماعية التي تمتلكها كل أمة أو شعب”.
والفكرة مستنبطة من الفيسلوف الألماني هردر، الذي يعتبر من أوائل من قالوا أن اللغة تحدد الفكر، وأن الفولكور والرقص والموسيقي والفن هي التراث الثقافي الذي يخلق أمة.
الكتاب عبارة عن محاضرات ألقاها منفصلة تم جمعها تحت هذا الاسم متأثرا برفيقه المقرّب غوستاف لوبون -عالم النفس الاجتماعي-.
تحدث في ثنايا الكتاب عن خمسة شعوب: الروس، الألمان، الأميريكون، اللاتين، الأنكلوسكسون باعتبارهم أرقى شعوب البشرية، وهو بهذا القول يخالف رفيقه لوبون الذي انتصر لحضارة العرب واعتبر لها دورا في تمدّن أوروبا.
يأتي الكتاب في سبعة فصول تلاحظ بعنوان كل منها اختياره صفة نفسية لشعب ما، فتارة يقول العناد الأمريكي، وأخرى البراعة الفرنسية، ومابين هذا وذاك يذكر الصوفية الروسية والانضباط الألماني.

في الفصل الأول يحلل ويشرح للوجه الجديد للعالم والشعوب: ما الذي حدث بعد الحربين العالميتين؟ وكيف تغيّر شكل العالم وبناءه في القرن العشرين؟
يشرح ذلك من خلال عدد من الأفكار، ألخصها في الآتي:
١-من العمل اليدوي إلى العمل الميكانيكي:
لقد تحوّلت أبر الخياط، ومعول الفلاح، ويد الخبّاز إلى تروس المعمل، ومكننة المصانع.
إن لهذا دور في فهم العمل وأبجدياته، بل حتى أخلاقياته. لقد كان العمل اليدوي قائم على شرف المهنة، لكن العمل الصناعي اليوم قائم على حيوية الحركات وروح التنظيم .ثم يصف مشكلة حقيقية نواجهها اليوم:
“… كل حل مشكلة صناعية تقنية يخلّف وراءه مشكلة أخلاقية ونفسية، وكأن الطبيعة تثأر لنفسها بأن تجعلنا ندفع بلا رحمة ثمن الفوائد والمكتسبات التي حصلنا عليها”.
٢-رذيلة السرعة*:
بتعبير بول موران -كاتب فرنسي أحد آباء الأسلوب الحديث في الأدب-: وهذا التعبير جعلني أتذكر مفهوم تعلمته في مطلع ٢٠١٩ وكان قد غيّر شكل أيامي، وكأنه يؤهلني لعام ٢٠٢٠ وماحدث فيه مع جائحة كورونا.
تعلّمت مفهوم “البطء” من كارل أونوريه في كتابه “في مديح البطء” أو بترجمة الرفيقة آراك الشوشان الذي استحسنته كثيرا: “ملكوت البطء”.
يتكلم الكتاب عن أوجه المنفعة من تقليل سرعة الأيام، وكيف تحولنا لتروس لا تتوقف عن الحركة، بل تحاول زيادة سرعة حركتها في كل مرة.
ليس هاهنا مقام تفصيل كتاب أونوريه لكنه جدير بالتأمل.
هنا مقطع له في TED يتكلم عن فكرة كتابة |
https://www.ted.com/talks/carl_honore_in_praise_of_slowness
٣-ثورة العلاقات الاجتماعية : وبطبيعة الحال مع تغير شكل العمل والذي يعد أحد المظاهر الإنسانية ستتغير العلاقات الاجتماعية بين الناس.
لقد اختفت الفرادة البشرية والتي لها تقدير من وجهة النظر الإنسانية، أصبح بالإمكان استبدال الانسان بآلة تقوم بعمله وتنتج إنتاجه.

الفصل الثاني من الكتاب بعنوان (الواقعية اللاتينية) وأظنه أختار هذا العنوان لأن سيكولوجية هذا الشعب هي سيكولوجية من بلغ سن الرشد، الواقعي المعتدل في قياسه للأمور، لا يسرفون في الكلام الذي لا طائل منه، ومن أبرز سماتهم:
١- شعب لديه أنفة وزهو وحب ظهور.
٢-يعرف جيدًا كيف ينجو بنفسه، فهو قوي الأعصاب، قليل العاطفة.
٣-لديه بلاغة وغزارة في تعبيراته الكلامية.
٤-اللغات اللاتينية ذات تخطيط واضح، وتكوين منتظم.
٥- كما أن جوهر القانون الإنكليزي هو الإنصاف والعدالة، فإن جوهر القانون اللاتيني هو الملكية.

أما الفصل الثالث فيأخذنا هناك حيث رائحة الجبن المعتق، وأنواع العطور الخلّابة (البراعة الفرنسية) .إن الشعب الفرنسي في نظرة أندريه هو شعب يؤخذ عليه عدم التطلع للأعلى، والرضا بالقليل، فهو يمشي مع المثل: “عصفور في اليد خير من اثنين على الشجرة”.
إنك لن تحصل على شيء من الفرد الفرنسي إلا باسم المبدأ، على عكس الألماني الذي إن اتبع أمر فهو يتبعه بطبيعة الطوعية، أم الأمريكي فممكن الحصول منه على كل شيء باسم الفاعلية. هناك مثل فرنسي يقول: “كوبي صغير ولكنه يكفي ظمئي” المثل الذي يجسد سمته في الرضا بالقليل والاكتفاء بما يسد الرمق.

وفي الفصل الرابع يأخذنا إلى انكلترا الجزيرة (العناد عند الشعب الإنكليزي): إن السيكولوجية البريطانية سيكولوجية صعبة وسيبدو مفهوم لماذا اختار العناد صفة نفسية إذا سمعنا بعض الأمثال التي قيلت عنهم، خذ مثلا:”خلقت الحياة لنسلكها صاعدين لا هابطين” وَ “خلق الانسان ليسمو على نفسه “الصباح في إنكلترا يتطلب طاقة غير عادية، ربما هذا يفسر لماذا يفطرون فطورا ثقيلا من لحم الخنزير والبيض. إن العقلية البريطانية هي عقلية تعتقد أن الحلول التي يمكن الوصول لها هي حلول هشة زائلة وتحتاج إلى تصويبات دائمة.

أما الفصل الخامس يقع في مطار الألمان، الشعب المنضبط: يقول أندريه أنه شعب سلبي، أي ذلك الشعب الذي يملك الاستعداد الدائم لتقبل تحوّل أو تبدّل جديد. يسمّي الأميريكين هذا الشعب “شعب القيادة” أي لديه استعداد حسن للرياسة والسيطرة.
يسمي التصور الألماني للوجود تصور صوفي فهو يتصل مع الطبيعة والكون ومع قوى الطبيعة.
إن الفرد الألماني إذا أراد التعبير عن نفسه فهو يلجأ للموسيقى والغناء بعيدا عن الكلمات، فهو لا يحسن التعبير عن ذاته نتيجة لذلك يغيب الضبط الداخلي عنده والذي يشكل أخطر عيوبه.
الروح الألمانية يمكن اختزالها في كلمتين: عميقة ومحملة بالمعنى، إنه شعب لديه نظرة تشاؤمية للعالم ولهذا هو مستعد دائما على مواجهة الكوارث والنهوض من جديد.

في الفصل السادس ننتقل مع أندريه إلى الصوفية الروسية: كثيرا مايتساءل الناس أهي أوروبا أو آسيا؟ إنها على الأغلب شيء بينهما. هي ليست بالأوربية الخالصة، وليست بالآسيوية الصرفة. ولهذا نجد أسماء لها: “أوراسيا” و “القارة السادسة”.
كثيرًا مايقال عن الرجل الروسي إنه شرقي متأثر بالغرب، أو غربيته أفسدت شرقيته، حيث قيل عنها من أحد السفراء: “ليس لروسيا أن تتعاطى مع الغرب إذ هي تأخذ منه كل الامراض”.
من أكثر ماأخذ الروسي من آسيا: الصبر والجلد والقدرة على تحمل الألم. إن الفرد الروسي قادر على جمع المتناقضات، يظهر هذا في كتابات ديستوفيسكي التي جمعت الرقة والخشونة والتواضع والكبرياء والظرف والغلظة.
الفرد الروسي ليس لديه معنى للوقت، فهو لا يتناول وجباته في موعد محدد، إن الحياة المنظمة لم تتأسس قط في هذه البلاد.
لدى الروس ذائقة ومعنى للعلاقات الإنسانية، لديهم شغف للثرثرات الطويلة الخالية من المعنى. فإن أردت أن تقدح أحد بعد إزعاجه لك بكثير من الكلام قل له: فيك نزعة روسية.

وأخيرًا في الفصل السابع الفرع الأكثر أهمية في العالم الأنكلوسكسوني: الدينامية الأميركية.
إن أول ما يبهر أبصارنا في هذه البقعة هو عظمة الطبيعة: شلالات نياغارا، نهر الميسيسيبي، جبال ألاسكا.
إن الفرد الأميريكي لا يقف تطوره عند وتيرة واحدة فهو مستمر بسرعة كبيرة. يذكر فيما بعد ذلك مقطع كامل عن أهم الحوادث في تاريخ الولايات المتحدة وهو استيطان أعداد كبيرة من المهاجرين القادمين من أوروبا.
إن هؤلاء المهاجرين شكلوا السيكولوجية لهذا الشعب.
فيتساءل هل تستوعب أميركا الهجرات في بوتقها وقالبها وإلى أي حد جعلت من الروس والبلقانين والألمان أميريكين فعلا؟ إن هذا الشعب لديه سلسلة من الثقافات المحلية تظهر بشكل متفاوت في أرجائها المعمورة. يمكننا اختصار صفاته في: شعب يحتفظ بحيوية القرن التاسع عشر وفاعلية القرن العشرين.
يختم الكتاب بنظرة عن الحضارة الغربية ومصادرها وأبرز المشكلات التي تواجهها.
الكتاب فيه نزعة عنصرية واضحة جدًا، فهو يستنصر لعرقه كثيرًا، ومع هذا فهو جيد في تكوين تصور عن الآخرين ويخبرك كيف يفكر الآخر عنك! حتى لو كانت نظرة مجانبة عن الصواب لحد ما، وهذه أحد مهارات الذكاء الثقافي أن تفهم الغربال الذي ينظر فيه الآخر لك.

———————

على الهامش:
*اكتشفت قبل عام تطبيق slowly وهو تطبيق مراسلات مطولة، يجب أن تكون مطولة فهو لا يقبل أقل من عدد كلمات معينة لأناس في أرجاء الكرة الأرضية. ليس هنا الدهشة!
الدهشة أن التطبيق يمكنك من إضافة طابع بريد في محاكاة للبريد العادي كما أن وصول الرسالة تختلف فعلا مدتها بحسب المنطقة.
تخيل أن وصول رسالتي للبرازيل استغرقت ١٦ ساعة! كما أن التطبيق يشعرك بأن لديك برقية مازالت في الطريق، والذي قد يمتد إلى ٧٢ ساعة حسب برقيتك من أين تأتي.
في زمن السرعة، واستقبال الرسالة بالثانية والدقيقة، يبدو هذا التطبيق لطيف فعلا.
رابط تحميله |
https://apps.apple.com/sa/app/slowly-connect-to-the-world/id1199811908