ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

تفكيك شوبنهاور

تأمّل “المُثل”! .. حسنًا؛ ذلك ربما يفترض عند شوبنهاور أيضًا ألا نغفل ـ كحد أدنى للانتباه ـ عن من نعتقد أنهم يتمتعون بالحنكة في تحقيق رغباتهم .. إنه جانب أصيل من التفكير في الألم كحالة إيجابية مقابل سلبية اللذة لدى أولئك الذين لا يتوقفون عن تعريف أنفسهم بالسمة المناقضة: السذاجة .. الذين لم يكن بوسعهم الالتزام بقواعد شوبنهاور عن السلوك البشري، والتي تضمنتها رواية “علاج شوبنهاور” لـ “إرفين د. يالوم”، ترجمة: خالد الجبيلي .. النادمون على محاولاتهم الخاسرة والمهينة طوال الماضي لإقامة العلاقات مع الآخرين، وتبادل الأحاديث والضحكات الودودة مع الغرباء .. الذين يُعذّبهم تذكّر الثرثرة الطائشة التي تلاحقت طوال أعمارهم أمام “الأصدقاء”، الفاضحة للضعف، وللأسرار الشخصية التي لا يجب أن يعرفها أعدائهم .. المتورطون دائمًا في الإبداء الشكلي ـ على الأقل ـ وبمبالغة مذلة في كثير من الأحيان لمشاعر الحب والاحترام، حتى لو لم يكن لتلك المشاعر وجود بداخلهم، أو يخفون نقيضًا لها .. المرغمون من أغوراهم الغامضة على الاستعراض الكلامي لما لا يريدون قوله، والاحتفال المظهري بتصديق ما قد لا يقيمون له وزنًا على الإطلاق .. الذين لم يتوقف حسن الظن عن الارتحال بعمائهم من هاوية لأخرى، وأهدروا كرامتهم في كل وقت بحثًا عن الألفة داخل الأرواح الخاطئة، وفي منح الساخرين من غفلتهم إحساسًا متواصلًا بأنهم في أشد الاحتياج إلى البقاء برفقتهم .. الذين تتضاعف مآثرهم المضحكة كلما أرادوا إثبات أنهم في غنى عمّن أساء إليهم، وأنهم يمتلكون القدرة على تجاهله.

لكنه التفكير الذي يفكك ما تصوّره شوبنهاور عن المُثل الأفلاطونية كحقائق مرجعية ثابتة ومستقلة للعالم الحسي المتبدّل .. بذلك نستطيع الالتفات إلى كيف يمكن لتأمل الإرادة (حين تكون مُثلًا) ألا يكون محكومًا بل اندفاعيًا كالإرادة ذاتها.

لا يوطد هذا التأمل المثال الذي يُسلّم بأن ثمة أصلًا متعاليًا لكل من “الحنكة”، و”السذاجة”، وإنما يقوّض ذلك الأصل المفترض للمعاني الملتصقة بكلٍ منهما .. لن يكون التفكير في ذلك النوع من الألم قائمًا على الحقيقة المترفّعة في تعريف الذات لنفسها أو للآخرين .. سيكون التأمل ـ حتى دون وعي منه بذلك ـ مخلخلًا للسلطة التي خلقتها ميتافيزيقا الإرادة.

ليس للحنكة مرادف سوى ما يحدده الوعي في لحظة معينة داخل موضوع “الإدراك” .. أما الإدراك نفسه فيمكن أن يعني بصورة بديهية: العلم بالمهارات، ومعرفة الإمكانات الذكية، وامتلاك القدرات الماكرة، والنجاح الكامل في توظيفها للحصول على المتعة .. بوسعنا أن نعتبر الإدراك بهذه الكيفية هو “فطنة الإرادة”، أي البراعة الخبيثة في البقاء، وليس مجرد البقاء في حد ذاته .. إجادة دفاع المرء عن قضيته ـ مهما كانت ـ والانتصار على الآخر غير الخبير بـ “فن أن يكون دائمًا على صواب” كما يشير شوبنهاور في كتابه .. مرة أخرى؛ هذا ما يُشكّل ملامحه ذلك الذي يرى وجوده يقع في الجهة المقابلة، أي الفرد الذي يعد نفسه مفتقرًا تمامًا لتلك الصفات، وهو ما يمثل إلحاحًا جوهريًا في تشريحه لكابوس الحياة “كموت آجل”، أو سجن القدر، الذي يمارسه بإيعاز من شوبنهاور .. لكنه تشريح هادم “للعالم الحقيقي والصحيح” المزعم عدم خضوعه لمؤثرات الواقع الذي تخوضه الحواس.

أما ما يحدده الوعي كمرادف للحنكة ونقيضها فهو ليس مشروطًا بالتجلي أمام ذاته، بل يمكن لهذا التحديد أن يتخذ مسارات ضمنية .. كذلك “الإدراك”، و”المتعة”؛ لا يُصارحان الذهن طوال الوقت بالمعنى والتوصيف المباشرين لهما، بل من الممكن أن ينشطا في خفائه، وبالتالي تصبح “فطنة الإرادة” محرّكًا سريًا للوعي .. لكن التشريح المرتكز على ثنائية “البقاء”، و”البراعة الخبيثة في البقاء” ينزع “القيمة” ولو على نحو غير معلن عن الخطاب الذي يشتمل على معطيات التأمل ونتائجه، أي يمنعه من السيطرة ومن البقاء كمطلق .. يحفر عطبًا في هيمنته بحيث تفقد لغة الإرادة القدرة على الإحالة إلى يقين خارجها .. لذا لن يكون لهذا التشريح حينئذ ـ ولو بغير استيعاب لما يقوم به ـ مرجعًا قهريًا، يحدد بشمولية أخلاقية متبجحة وهزلية في آن واحد ـ كما اعتاد شوبنهاور أن يفعل ـ ما هو الصواب والخطأ، والحقيقة والضلال، والنزاهة والوضاعة، والصدق والكذب، والجلالة والحقارة، والسمو والانحطاط، والعبقرية والتفاهة.

لا ينطوي تأمل “الساذج” ـ كما يُعرّف نفسه ـ لما يظن أنه فرد “حائز للنباهة” على تلهف لأن يصير مماثلًا له، وإنما يتفحص اللهفة ذاتها التي تسبق التأمل .. يحدّق في استفهاماتها المحتملة كما يليق بكائن تعطّلت “إرادته” أو بالأحرى اتخذت رداء العطالة، أمام التفكير في “الإرادة” .. هو ليس خاسرًا الآن على النحو الذي اعتاد عليه، وإنما يتساءل عن طبيعة ما يخسره .. لا يرجو الحصول على “الإدراك” الذي يتصوّر أن الآخر يتمتع به، بل يراوغ هذا الإدراك كي يراقب ما يطلق عليه “النضوج” في التعامل مع الواقع، وكذلك المعاناة الناجمة عن غيابه .. المراوغة التي لا تتعلّق بالإدراك فحسب، بل بتذويب ارتباطه بـ “الفكر الخالص” أو بـ “الأشياء في ذاتها”؛ فالنضوج ـ بالتضاد مع شوبنهاور ـ لن يستند إلى موضوع أو نموذج أصلي فيما وراء العالم.

يمكننا القول أن التأمل بالأساس هو ممارسة لإفساد الانسجام مع اللغة التي تدعي معرفتها بالمقصود دون شك بالسذاجة .. لمهاجمة المفردات التي تحاول أن تقرر معنى مضمونًا للنباهة .. هذا ما يجعل “الإدراك” سؤالًا يخص موضوع العالم كحاجة عفوية، أو كاجتياز مسافة مخالفة للعدم .. أن تتفحص الطريقة التي يشيّد الموت بواسطة الكلمات ذلك “النضوج”، أو لن تكون “موجودًا”.

كأنما “الساذج” يرسم لوحة مؤقتة لسذاجته دون نقمة مألوفة .. كأنما يرسم لوحة للذكاء المتمنّع بلا حسرة اعتيادية  .. ذلك ما يسميه شوبنهاور بالتحرر العابر من عنف الإرادة العمياء والجائعة دومًا بلا دافع والتي تستعمل الفرد كشر خالص دون غاية .. بالخلاص الزائل من المرارة والضجر اللذين يجسدانه .. حينما تتحرك السذاجة خارج الظواهر التي تثبتها ستتوقف عن أن تكون كذلك .. القدرة الماكرة أيضًا لن تبقى كما هي بمعزل عن الأفعال التي تعبّر عنها .. ستتعدى تلك اللوحة الثنائية الأفلاطونية الرئيسية: “الدال والمدلول”؛ فالسذاجة والقدرة الماكرة لن تشيرا إلى مفاهيم جوهرية داخل عالم مثالي محتجب بل إلى تناثرهما المتواصل، وتحوّلهما دائمًا إلى غير ما كانا عليه .. الخضوع من ناحية، والتمعّن في ما تخضع له من ناحية أخرى.

كأن هذه اللوحة تتحدث عن أن اللغة ليست ممرًا بين الساذج والتحديق في سذاجته، أو بين الذكاء وافتقاده، وإنما هي التي تؤسس الفرد الذي يتم استعماله .. تقرر بمفرداتها وقواعدها  الظواهر والأفعال التي تمثل الواقع .. كأن اللوحة تكشف عن أن المراقبة في حقيقتها تتوجّه إلى اللغة التي لا يمكن مغادرتها .. المراقبة التي لا تحوّل ـ بعكس ما يعتقد شوبنهاور ـ المدركين للخواء والسخف والحمق وافتقار المعنى والتعاسة والشقاء والشرور “جوته وشكسبير بالنسبة لشوبنهاور على سبيل المثال”؛ لا تحوّلهم إلى قديسين أو حكماء ذلك لأن اللغة لن تجعلهم تعويضًا عن العدم أو بديلًا له، لذا فإن تحررهم أو “خلاصهم” هو “كلمات تفكر في نفسها”، وهو جانب من غريزة (التطاحن في سبيل الحياة) وليس شفاءً منها؛ فإما الكلمات أو الفناء.

يمكن للساذج أيضًا أن يُكسب موسيقى ما نيّة تمثيل “فطنة الإرادة”، أي يجعلها ـ بصرف النظر عن قصد مؤلفها ـ تتناول شعوره بافتقار “البراعة الخبيثة في البقاء”، لا كشيء شخصي، وإنما كحالة كونية منتشية، تنطلق فيها الذات من جرحها الخاص إلى “مسألة الجرح” باعتبارها وجودًا غيبيًا .. من أثر الإرادة، إلى الإرادة نفسها .. يراود الساذج إحساسًا حينئذ بالموسيقى الصامتة التي تكوّنها النباهة وانعدامها .. موسيقى الألم غير المسموعة مع هزائم الواقع .. التي تعلن عن نفسها حين تتحوّل إلى نغمات وإيقاعات، تخاتل الإدراك أو “مصدر المعاناة” كي تجسّده مجردًا من الكيانات والأشياء التي يتمظهر من خلالها .. الموسيقى التي تمحو ما يمكن تصوّره قانونًا كونيًا للكمال، أو بصمات أوّلية للعالم المادي.

ما تتناوله هذه الموسيقى يتجاوز ما تكدس من توظيفات في ذاكرة “فطنة الإرادة”، أي يتخطى قوالب “البراعة الخبيثة في البقاء” كما تتجذر في الماضي .. هي تعيد تعيين الجرح متحررًا من أنماطه .. من السياقات الرمزية التي تحتكر المعاناة الناتجة عنه.

من كتاب “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير .. تولستوي .. فاغنر” … يُنشر قريبًا.