ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

“السر المحصّن” … الرمزية الجوفاء للعالم

لنتخيّل الأمر على هذا النحو: شخص مهووس بما يُسمّى “فضائح المشاهير”؛ السياسيون، الفنانون، الرياضيون، الإعلاميون، رجال وسيدات الأعمال .. ذلك النوع من البشر الذي يقضي معظم وقته على الإنترنت متتبعًا ما تم توثيقه بمختلف الوسائل حول “الأسرار المشينة” لـ “نجوم المجتمع” في كل مكان وزمان .. يتوقف هذا المهووس ذات يوم فجأة عن رحلاته الاستكشافية ويسأل نفسه: هل هذا كل شيء؟ .. بالتأكيد لا .. ثمة “فضائح” لا نهائية لم تُكشف حتى لمن تم “فضحهم” بالفعل .. لماذا؟ .. لأن من يعلم بتلك الأسرار لم يرغب في ذلك .. لم يفكر حتى في تعريتها أو مجرد التلميح لها ولو بأكثر الطرق خفوتًا .. أشخاص يعرفون، وبإمكانهم كشف ما يعرفونه أو الإشارة إليه، ويدركون جيدًا أنهم لن يدفعوا أي ثمن في المقابل .. لن يصيبهم أدنى ضرر أو تهديد نتيجة لهذا .. ورغم ذلك يتكتمون على الفضائح .. لا يخطر في ذهن أي منهم سرد ولو حكاية واحدة عن سر مثير بالرغم من أن الاهتمام لا ينقصهم، ويقدرون على إيجاد تسوية أخلاقية للأمر (عرض الحكاية كرسالة وعظية مثلًا)، ولا تمنعهم انشغالات الحياة من إنجازه، فضلًا عن كونهم لا يلمسون استفادة واضحة من الاحتفاظ بالأسرار في ذاكرتهم وحسب، بل وربما يستشعرون أحيانًا اللذة الكامنة في الإيحاء بها ـ على الأقل ـ للآخرين استنادًا إلى مبدأ أن السر لا قيمة له إن لم يعرف أحد أنك تملكه .. ليست الأسرار التي تتعلق بالمشاهير فقط، بل التي تخص الجميع.

سينتبه ذلك المهووس بأنه واحد من هؤلاء .. هو يفعل ذلك مثلهم .. عرف خلال حياته العديد من الفضائح، التي لم تتداول في نطاق عام، أي تقتصر على حدودها الضيقة ولم تتحوّل إلى علكة شعبية، ومع هذا لم يكشف عنها .. في البناية، الشارع، المدرسة، الجامعة، العمل .. لم يفكر في تعرية الأسرار أو التلميح لها ولو من وراء إسم مستعار، ومن دون أن يُصرّح بالأسماء الحقيقية لشخصياتها .. لماذا لم يفعل ذلك؟ .. لماذا حرم نفسه طوال الماضي من لذة كشف الفضائح أو حتى الإشارة إليها من خلال مكانها وزمانها والأحرف الأولى من أسماء أبطالها؟ .. أي شيء في داخله منعه من ذلك؟

سيفكر في أنه ربما ثمة شيء يشبه “غريزة الإخفاء” تحكم الحياة، لا تحتم علينا الحفاظ على أسرارنا الخاصة فحسب بل أسرار غيرنا أيضًا .. غريزة يثبتها كل ما يُفضح، أو يُكشف، أو تتم تعريته؛ إذ أن كل سر يظهر إلى العلن يخص شخصًا ما فكأنه تعتيم على أسراره الكثيرة الأخرى .. الأسرار التي ثمة من يعرفها ومع ذلك لم يبح أو يوحي بها على الأقل في مجال عمومي .. غريزة لا تستهدف حماية المخبوءات الشخصية في حد ذاتها، وإنما يبدو كأنها تقصد حماية “خفاء أعظم” .. كأن حفاظها على هذه المخبوءات هي طريقتها في الحفاظ على المخبوء الغيبي .. أن يظل محجوبًا، متمنعًا، معجِزًا، لا يظهر إلا من خلال تجلياته الجزئية (علاماته المكشوفة المعادلة للأسرار العارية في الواقع) التي تثبته وتشير إليه وتحتم الخضوع لقدراته المطلقة .. أن تبقيه مقدسًا.

سيستعيد المهووس بالأسرار شخصيتين نمطيتين لهما علاقة بالأمر: النمّام، وصحفي الفضائح .. كلاهما يعتمدان على كشف الخبايا المعيبة في فضاء مفتوح .. لكنهما في الوقت نفسه يشتركان في سمات أخرى: أولًا يُشار إلى كل منهما باعتبارهما يحملان هوية منفصلة عن السائد (حينما أقول أن هذا شخص نمّام، فإنني أميّزه عن أكثرية لا تمتلك صفته، وهو ما ينطبق بالضبط على صحفي الفضائح) .. ثانيًا لا يصل أي منهما إلى الإشباع، يريدان دائمًا ما يستحق قوله / نشره للآخرين، لذا فكأن ثمة حكمًا يقينيًا يستقر داخل كل منهما بأن هناك أسرارًا لم تُكشف بعد، وتتجاوز دون حد ما تم تعريته بالفعل .. ثالثًا لا يحصل أي منهما على الاكتمال، يرغبان في الإحاطة التامة بكل ما يقومان بفضحه سواء عند استقبالهم للسر، أو أثناء كشفهم له، أو بعدما أصبح شأنًا متداولًا، أي يطاردان المعرفة الكلية المتعذّرة، التي لا تنفلت منها أبسط التفاصيل، وهو ما يعني بالضرورة إدراكهما بأن ثمة ما يحيط بالسر نفسه لم يُفضح، وربما يعلمه شخص آخر، لم يكشف عنه .. إذن فكل من “النمّام”، و”صحفي الفضائح” يثبتان أن: الفضح استثناء .. كل ما يقومان بتعريته (أو اختلاقه) لا يُقارن بما هو مخفي .. هناك دائمًا خبايا في ما يتم كشفه.  

إن هذا يبدو كحتمية بشرية لنسب الأشياء الواضحة إلى فيض غير محدود من الأسرار التي تنبع جميعها من “سر أصلي”، لا يُدرك، يمتلك الحقيقة الكاملة، والتفسير الشامل، أي الهيمنة الكونية على الموجودات كافة .. آلية إنسانية لا تتعطل عبر الزمن لتحصين ذلك المصدر المترفّع، المسيطر عبر كل “خفاء صغير” يوطد “خفائه المتعالي” .. كأنها برمجة قهرية لأجسادنا على الاستخدام المتكتم للغة، الذي لا يفضح بقدر ما يواري، لا يصرّح بقدر ما يومئ، لا يتكلم بقدر ما يستخدم الكلمات كستار، كنوع مراوغ من الصمت، حتى في أكثر الخطابات اعترافية، وهو ما يحقق طوال الوقت العبادة العفوية للقوة الكامنة في الخطاب المخبوء لذلك السر الأصلي .. للسلطة المتجذرة في الكلمات المحجوبة لذلك المصدر المترفّع، والتي تدل عليها كلماته المعلنة الأقل .. كأن الحياة ليست إلا إلزامًا متواصلًا بالإحالة العمياء إلى مرجع قيمي غير منظور، وليس محل شك، بواسطة التواطؤ مع خفائه.

سيتوصّل ذلك المهووس إلى أن الأمر لا يتعلّق فقط بالفضائح، وإنما بكل شيء .. بكل ما لا يُعد سرًا أيضًا .. أن الناس لا يتحدثون عن حيوات الذين يعرفونهم بما يعادل صمتهم عنها .. لا يتداولون في أغلب الأحيان ـ إن حدث ذلك ـ سوى جوانب محدودة، ملامح انتقائية لتلك الحيوات، وبشكل مؤقت بالرغم من امتلاك الفرد لساحات افتراضية غير مؤطرة في العصر الحديث يمكنه أن يسرد من خلالها جميع القصص التي يملكها .. سيدرك أن الفضائح ليست إلا الدليل الأقوى على طغيان الإخفاء .. الإثبات الأكثر صلابة لحتمية المواراة التي تتجاوز “الأسرار المشينة” وتشمل كل تفاصيل الواقع .. لماذا هي الدليل الأقوى؟ .. لأن إخفاء الفضائح يعظّم قيمة الإخفاء حيث لا يتساوى التكتم على سر مثير بالسكوت أمام أمر عادي .. ليس هذا كل شيء .. فالفضيحة بتجسّدها كنموذج للإثم تمنح من يخفيها شعورًا تأكيديًا بأنه صورة “للخفاء الأعظم” .. تعطيه برهانًا حسيًا بأنه يعرف (الذنب) مثله، ويستطيع أن يكشفه مثله، كما يقدر أن يواريه مثله أيضًا .. الفضيحة كـ (شر) تجعل من يخبئها قادرًا على تقمّص “المخبوء الغيبي”؛ فإن كشف شيئًا فهذا دليل قدرته على إخفاء أشياء أكثر بكثير، أي بوسعه التحكم (مثلما يفعل ذلك المحجوب والمتمنّع والمعجز) في الأسرار كحاضن لها .. هذا ما يجعل (التواطؤ مع خفاء المرجع القيمي) ساطعًا .. التواطؤ الذي ليس أقل من غريزة.   

بهذا تكون آلية الإخفاء موظفة للحفاظ على أن يكون المُعلَن رمزًا لشيء آخر قد يمنحه المعنى .. شيء يملؤه ويحيط به إخفاء مغاير، وبالتالي يكون هذا الشيء رمزًا لشيء آخر وهكذا دون حدٍ أو انقطاع .. إبقاء العالم في طبيعته الترميزية حيث يجب أن يشير خفاء جميع الأشياء إلى الخفاء المطلق الذي تنتهي عنده كل الرموز أي الذي يمتلك معانيها الحاسمة .. وبما أن الخفاء المطلق هو حضور مؤجل أي غياب إلى حين؛ فلن يكون الخفاء الجزئي إشارة له بل سيصبح هو نفسه ذلك الخفاء المطلق .. بديلًا له .. كل موارة صغيرة ستكون غيبًا مستقلًا في حد ذاته، أي تمتلك احتمالًا لأن تكون ثغرة منقذة في الوجود تمامًا كما يفترض بالمقدس أن يفعل .. هذا ما يجعل الترميز ليس إلا فراغًا يشير ويتبدل ويدور داخل فراغات أخرى.

ثمة ماهية غامضة للاطمئنان الناجم عن التزام الصمت الذي نصحت به “آنيا” خالها “جاييف” في مسرحية “بستان الكرز” لأنطون تشيكوف .. الصمت الكامن حتى في أكثر الكلمات إفراطًا .. أن تكون سرًا ينتسب إلى سر أكبر .. ظلامًا يمرر المخبوءات التي يراكمها من العالم نحو الخفاء الذي قد يضمن مصيرها .. يحقق خلاصها .. أن تكون روحًا متناغمة لهذا التكتّم الكوني .. ظلًا يُجسّد إرادته .. أن تكون تلك المواراة المجهولة نفسها ولكن على نحو غير خارق، مستعدًا لمعجزتها الوشيكة.