نادين عبد الحميد
نادين عبد الحميد

د

كيف يتحكم عقلك في المستقبل قبل أن يحدث؟

نأتي إلى هذه الحياة أطفالًا تجمع بيننا الفطرة الأولى، نتشابه في أننا صفحة ناصعة البياض على أتم الاستعداد لكي تشكلنا الحياة بمختلف ألوانها، حتى نتفرق كلٌ في اتجاهه نحو تجربة حياتية ثرية تختلف تمامًا طبقًا لكل اتجاه، من يصنع خيرًايحصد نتيجة زرعه ومن يضل بين الطرق يظل ضائعًا إلى الأبد، ولكن كيف يتحدد مصير كل منا طبقًا لطريقه الذي يختاره؟ ما هو دور العقل في ذلك؟

لنفترض أن العقل عبارة عن متاهة كبيرة تتكون من مسارات متشابكة ودقيقة إلى أبعد حد، في البداية تتسع المسافات بين كل مسار والآخر وبمرور الوقت ومع تراكم الخبرات والتجارب تزداد قدرة العقل على تشكيل وخلق مسارات أكثر، فيصبح كل مسار أصغر مما كان عليه وأكثر دقة في القيام بوظيفته، العقل ينمو يوم بعد يوم ويصبح أكثر تخصصَا في كل شيء يتعرض له، وذلك في محاولة منه لخلق نظام ذكي تلقائي يعمل على توفير الجهد والطاقة للاستفادة منها في القيام بالمهام الأصعب والأكثر دقة، على سبيل المثال لا الحصر في أول مرة تتعلم فيها أي شيء تجد أنك تحتاج إلى أن تصب كامل تركيزك على عملية التعلم لكي تتقن فعل شيء للمرة الأولى، ثم مع تكرار الخطوات نفسها أكثر من مرة، تجد أنك لم تعد بحاجة إلى هذا القدر من التركيز الشديد نتيجة لأن عقلك يقوم بتسجيل كل خطوة تقوم بها عن ظهر قلب ويوفر تلك الطاقة المستهلكة لقيام بعملية أخرى تحتاج المزيد من العمل واليقظة.

تلك الطريقة المتبعة في عملية التعلم يمكن تطبيقها على أي تجربة أخرى يخوضها الإنسان في حياته اليومية أو في علاقاته مع الآخرين، فإذا فشل أحدهم في دراسته أو خسر وظيفته بسبب أنه لم يكن لم يبذل الجهد اللازم ثم أخبره أحدهم أنه قد خسر كل شيء لأنه غبي ولا يملك قدرات مماثلة لما لدى الآخرين، سيظل دائمًا وأبدًا مقتنعًا بتلك الفكرة حيث يشكل العقل حلًا جديدًا وراسخًا لإجابة سؤال لماذا أفشل في كل شيء؟ الأمر معتمد تمامًا على احتمالية إدراكه للأمور ورؤيته لها بشكل صحيح، قد تشكل أفكارك الشخصية وتجربتك الفردية المحرك الأساسي لتشكيل مسارات التفكير في عقلك، ولكن ماذا إذا كانت تلك النتائج والاستنتاجات نابعة من عقل شخص آخر؟ ماذا لو أنك تحت سطوة ألاعيب الآخرين التي تتحكم في طريقة تفكيرك ورؤيتك لنفسك، من كنت قبل أن يخبرك الآخرين من تكون؟

الأمر في غاية الخطورة لأن الإنسان حتى وإن كان خاضعًا لتفكيره الخالص فإن مهاراته العقلية في التفكير تتحكم بشكل كبير في النتيجة التي سيحصل عليها، إذا لم يكن يتحلى بالتفكير الناضج الواعي أو إذا كانت أفكاره متحيزة نحو اتجاه معين أكثر من الأخر، إذا لم يدرك كيف يحلل الأمور بشكل منطقي سينتهي به الحال نحو استنتاجات وافتراضات غير حقيقية، حتى يبدو الوهم في تلك اللحظة مثل الحقيقة التي لا يختلف عليها أحد.

قد يقع الإنسان فريسة لأفكاره، يتلاعب كل منهما بالآخر دون أن يصل لنتيجة سليمة، إذا كيف تُبنى الخبرات التي تتراكم بداخل الإنسان؟ كيف يختبر صحة الدروس التي يتعلمها يوم بعد يوم دون أن يشك في نفسه؟ كيف يتأكد مما يظن أنه الحق بعينه؟ أظن أن الإنسان يحتاج أن يكون في حالة وعي ويقظة مستمرة وهو شيء صعب المنال، ولكن على الأقل يجب أن يحدد وقتًا ثابتًا من حين إلى آخر لكي يراجع نفسه ويتأكد من صحة قناعاته ومن أين اكتسبها، أن يختبرها ويتأكد من صدقها قبل أن يجعلها مبدأ في الحياة، كل شيء قابل للشك حتى تلك الحقائق التي تلمع من شدة صدقها، وأن اليقين صفة غالية لا تمنح لكل شيء.

هل للإنسان قدرة على أن يصنع مستقبله؟ أظن أننا نستطيع فإذا كان العقل يتسم بتلك المرونة في تشكيل نفسه ولأن النتيجة التي نحصل عليها أخيرًا تتحدد وفقًا لما نعيشه من تجارب، لماذا يعجز الإنسان عن صنع مستقبله؟ هل إذا اعتنقنا بعض من الأفكار بكامل وعينا سيتشكل العقل كما نحب ونرى؟ هل عندما تخبر نفسك كل يوم أنك تستطيع هدم الجبل الذي تخشاه ستهدمه؟ يظن البعض أن العقل لا يستطيع أن يفرق بين الجمل التي يسمعها من الآخرين وتلك الجمل التي تخبرها لنفسك سواء بصوت عال أو من خلال حديث يدور بداخلك، الإنسان إذا تمكن من استخدام هذه الحيلة لصالحه قد ينجح في بناء المستقبل الذي يحب وأن يحكم سيطرته على عقله بالطريقة التي يراها صحيحة، بالطبع كل شيء يحتاج إلى تدريب وإتقان لاكتساب تلك المهارة ولكن أليست النتيجة تستحق؟ أظن ذلك.