عبد العظيم واوية
عبد العظيم واوية

د

لن يعبروا الجسر يا صديقي

“زرت قلاع سوريا كلها قبل أن أكمل عامي الرابع والعشرين”. وما زالت صفحة الفرات الممتدة على جانبي جسر قره قوزاك والقمر الساطع على هذه الصفحة مع البط الهاجع تلك الليلة نقطة علامٍ في ذاكرتي، النقطة صفر في خطي الزمني نحو اكتشاف هذه البلاد وعمقها، حين حدث وأصبحت حواسي شديدة التذوق لكل ما هو سوري، وقادني شغف لمعرفة ماذا بعد حلب، لأحيا أجمل المراحل وأكثرها ثراءً في حياتي. لكن هذا لا يجعلني أشعر بأني على ما يرام، فالفخر المصاحب لذلك يشوبه الأسى، وأسى كبير.

ذلك أن أسف عميق وشفقة لا حدود لها أشعر بهما كلما أيقنت أن عبور جسر قره قوزاك لن يكون له الطعم ذاته، فهو وعدا عن الموت المتربص بعابريه في كل لحظة، لو حدث ذلك فالغالب أن العابرين هم أناس أنهكتهم الهزيمة أو الانكسار، ومنهم من آثر الهروب لسبر أغوار جواله أكثر من الأرض ذاتها، وهناك النيام أو الذين لا يعلمون ببساطة بوجوده حتى ولا هم على موعد مع قمر ونهر وبط. ولن يقدر لهم أيضًا أن يعرفوا أن الجميع كان يحيا في حمص أو أن حلب لا تنام ليلة العيد.

سيعول الكثيرون في أداء مهمة التعريف بما سبق على الإعلام، وهنا بيت القصيد، فإعلامنا نائم والحقيقة “نوم الظالمين عبادة”، فهو إن استيقظ لن يقدم الكثير، بطولات مزعومة، تلفيقات مللنا منها، كاذب يعلم أننا على درايةٍ بكذبه. وإذا تطرق إلى الترفيه، ستفضل التضاؤل والاختفاء في أقرب حفرة للصرف الصحي على المتابعة.

وعلى تفاهة ما يقدمه إعلامنا، كان الناقص هو “جبل”؛ في كل مكان ستجد شبيهًا له على امتداد ساحة البلد، ولا بد أن صالونات الحلاقة الرجالية هي الشاهد الأكبر على من يحاولون التشبه به يوميًّا، لحية مدببة مقرفة وشعر يتجه للاعلى بقدرة الكيماويات. طبعا، كثيرة هي نماذج الأبطال التي قدمتها السينما والتلفزيون والتي شكلت صرعات للشباب، لكن في حالتنا السورية هذه، لماذا هذا النموذج تحديدًا، عن أي بطل تتحدثون! وهذه الطريقة في التناول والتي تسعى لتكريسه بطلًأ؟

ببساطة، وبأفضل العبارات الممكنة، لا يعدو جبل أن يكون خارجًا عن القانون؛ تاجر أسلحة ومخدرات ومهرب بضائع، ويُقدم كقدوة تنتشر كالنار في الهشيم، هل خلت الساحة إلّا من هؤلاء، هل هم أبطال هذا الزمن؟

المؤسف أنّ أمثال جبل هم نسخة مطورة ومحدثة، ومهذبة للأسف، عن كثيرين عرفتهم البلاد مؤخرا، بعضهم وصل الأمر به أن استأنس الضباع واتخذها حيوانات أليفة له وأطعمها لحوم ضحاياه، وحتى إن كان مثل هؤلاء يجيدون قواعد العشق الأربعين وينزلون أمهاتهم منازل القديسات، لكن ذلك لا يبرر مطلقًا أن نلبس السفاح حلة ملاك! ولنكن حسني النوايا، لنقل أنه مجرد نموذج طُرح على الشاشة، ألم تسترعِ خطورة انتشار مثل هذا “البطل” انتباه القائمين على هندسة أجيال البلد والتخطيط لها -في هذا الوقت تحديدًا- ألم يعني الانتشار الواسع لهذا النموذج بكل سيئاته وجود تفسخ مفاهيمي في بنية المجتمع؟ إجابات كل ما سبق مخيفة، على الأقل باعتقادي.

إن إعلامنا مصاب بعاهة مستديمة، هذا لا يختلف عليه اثنان، لكن أن تُختزل مساحة وطن إلى جرود وجبال معرفتها ضرورية للتهريب الآمن، وأن يغيب نموذج جيد مطلوب وبشدة  ( وإن كان مبتكر أو مثالي)، فتلك جريمة ربما سيُحاسب الجميع عليها يومًا ما. وباختصار، إن تناولنا وسائل الإعلام الحديثة (تلفزيون، انترنت)، فما فعلته في حالتنا أنها قدمت طرقًا عديدة ومتنوعة، لكن الضحالة والتسطح هو ما أودتنا إليه تلك الدروب، ربما لم يكلف الكثيرون أنفسهم عناء البحث.

أنا أعلم أن المشكلة أقدم وأكثر تعقيدًا، لكنها تفاقمت في الآونة الأخيرة، وشارفت على أن تصبح مرضًا عضال. وللإنصاف، لم نكن بحالٍ أفضل أبدًا قبل عشر سنوات، لكن كان هنالك أمل آنذاك، أمّا الآن، فلست أدري!

لا أجرؤ على القول أن القادم مظلم، فلا بد من الأمل، علينا ممارسته واختلاقه. وإلّا فإن جسورًا ستتحطم وتهدم قلاع بأكملها دون أن يسمع بها شبابنا أصلًا، لتنكر خطوات كل من مشى عليها يومًا وتبقى خطوات جبل وأمثاله هي الطبل الوحيد الذي يملأ صداه فراغ رؤوس معجبيه.