مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

أشياء تأخذها معك إلى الحرب

تدوينة: صفية عبدالعزيز

يُحبس «فُلورستان» البطل الرومانسي في أوبرا «فيدليو» لبيتهوفن ظلمًا في زنزانة مظلمة، فيهتف قائلًا: «يا إلهي إنها مظلمة!» ولعله يُشير بذلك إلى الظلمة في قاع الذاكرة البشرية، فنحن غير واعيين لأي الذكريات تُخزن أو لا وكيف تُخزن، أو حتى كيف تُنظّم قبل التخزين.

هكذا بدأ «انطونيو داماسيو» حديثه عن اللاوعي في كتابه «الشعور بما يحدث» حيث يتحدث فيه سائرًا على خُطى فرويد عن صلاحيات اللاوعي بجانب تخزين الذكريات والمشاعر والأفكار والدوافع والرغبات والأمنيات أيضًا، وأنه يُعتبر جزءًا فقط مِن كم هائل مِن العمليات المُخزنة التي لا نعي بها بل ونعتبرها عشوائية عارضة أو حتى مقصودة ولكنها في الحقيقة مُخزّنة لا شعورياً.

فالعقل الباطن يتعدى حدود معرفتنا عن الذكاء أو حتى القوة وعلى حجر الأساس هذا بدأت التجارب والأبحاث، منها ما وصل على أسماعنا في حوادث التاريخ ومنها ما تم حفره في ذاكرة البحث العلمي للأبد.

كتجربة الطبيب «بورهيف» الشهيرة مثلًا عن قوّة العقل الباطن، فكان يستخدم فيها المساجين المحكوم عليهم بالإعدام مقابل تعويضات مادية لذويهم ولأن يتم ذكر دورهم في البحث العلمي، فاتفق مع مجرم أن يتم إعدامه عن طريق تصّفية دمه وبالفعل تم تقييده وعصب عينيه وتوصيل خرطومين رفيعين مِن قلبه حتى معصمه و ضُخت فيهما مياه تساير درجة حرارة الدم ووضع دلوين أسفل يده لمحاكة تقطير الدماء، تفاجأ بعدها الطبيب بهزال واصفرار يعتلي جسد المجرم وعندما اقترب منه وجد أنه مات في نفس الوقت الذي لو أنه قام بتصّفيته بالفعل لمات فيه؛ مات دون أن يفقد جسده قطرة واحدة مِن الدماء بسبب ذكاء عقله اللاوعي وحبكه الدقيق لكواليس الاحتضار قبل حدوثها كحاسوب يقوم بعملية حسابية تم برمجته عليها ودفنها في ذاكرته التخزينية، ومن هنا بدأ شك الباحثين بمحدودية قدرة اللاوعي على الإيحاء، فمثلًا إذا المجرم هنا سار جسده من طريق الحياة إلى الموت فما هي احتمالية حدوث العكس؟

في عام 1957 نشرت مجلة «Projective Techniques» مقاًلا عن رجل يُدعى «مستر رايت» في مرحلة متأخرة مِن سرطان الغدد الليمفاوية وأخبره طبيبه بأن أمامه أسبوع لا أكثر، في ذلك الوقت ظهر عقار جديد يُسمى “كريبيوزين”، حيث تم التصريح بفاعليته، فحُقن به مستر رايت بعد أن تم إقناعه، و بالفعل بدأ في الشفاء و تحسنت حالته النفسية حيث أن حياته تخطت ذلك الأسبوع  الذي حدده له طبيبه بمنطق مشابه لمنطق العمليات الحسابية.

وبعد فترة وجيزة أثبتت الأبحاث عدم فاعلية عقار “كريبيوزين” في شفاء سرطان الغدد الليمفاوية، وعندما عرف مستر رايت ذلك انتكست حالته وفقد ثقته في الطب والشفاء ومات تاركًا ورائه اكتشافًا تأكيديًا على دور اللاوعي في تحسُّن الصحة النفسية ثم الجسدية.

ولكن هل يتوقف الإيحاء على البادئ والمُتلقي أو رد الفعل الواحد الناتج عن فعل واحد؟

لقد نبشَ فضولي كل ما استطاعت قدرتي الوصول إليه، فلم أجد تجارب بشرية مُصممة ولكن في المقابل أعاضني التاريخ بحوادث حقيقة تشبه في غموضها وحبكتها مسرحيات شكسبير، ولكن بفرق وحيد وهو أن مَن عاصروها لم يعلموا أبدا أنهم أبطالها.

في عام 1994 في مدينة زيمبابوي، أُصيب حوالي 60 طفلًا بالذعر و الهلع نتيجة لرؤيتهم مركبة فضائية تهبط ويخرج منها فضائيين، بل ورسم بعض الأطفال الكائنات التي شاهدوها رغم عدم معرفتهم بها بشكل سابق، وهناك حادثة أقرب منها في عام 2006 في نيبال، حيث قام الأهالي بأداء الطقوس الدينية لجثة ثعبان، اعتقادًا بأنه يؤذي الأطفال، وبالفعل كان الأطفال يُغشى عليهم أو يبدؤون في الصراخ والبكاء، وتم حينها أغلاق المدارس واستدعاء الكهنة لطرد روح الثعبان.

الفرق الجوهري يكمن في أن الإيحاء كما كان رد فعل لفعل لواحد فيمكنه كذلك أن يكون رد فعل هائل لنفس الفعل الواحد.

وفي تلك الحالة يُطلق عليه بالهستيريا الجماعية Mass Hysteria، أو ما يُسمى في علم الاجتماع بالذعر المعنوي، حيث يُصاب الجمهور بنوبات من الذعر نتيجة لرد فعل ما خارجي ميتافيزيقي كالنشرات الإخبارية أو الأجواء الموترة والباعثة على الخوف والقلق كالحروب والأوبئة. وفيها يتوهم الأشخاص بأن لديهم المرض ذاته، فبعد أن تظهر أعراض ما على شخص تنتشر أعراض مشابهة لها لغيره وغيره بالإيحاء.

وبعيدًا عن كل المسببات والأعراض الطبية فإن قدرة اللاوعي بصورة فلسفية لا تنفك إلا أن تُشعرنا بمدى ضآلة ما نعرفه ومدى محدودية القوة ومدى محدودية ذكاء الإنسان مهما اكتشف ووصل إلى أراضٍ وملكَ ما لم يملكه سواه، فهو في النهاية ما يعرفه عن ذاته الواعية أقل بكثير جدًا عما تضمره ذاته اللاواعية، وقد استخدم فرويد التشبيه الشهير خاصته حيث وصف الذات بالجبل الجليدي، الجزء المدفون منه تحت الماء (اللاوعي أو الهو) أكبر بأضعاف من الظاهر فوقه (الوعي أو الأنا).

فإن كانت غريزة الإنسان منذ بداية الخلق هي السيطرة فإن اللاوعي هو العائق الوحيد المتمرد عليها.

وكان فرويد هو أول من وضع المصطلح وعرّفه فلسفيًا، ووصفه بأنه منطقة مُخزنة لكل الانفعالات والأفكار والتجارب المؤلمة والكبت بسبب المفروضات المجتمعية والأخلاقية ولا يمكن التعرف عليه سوى بالاستدراج باستخدام التحليل النفسي، وقد تظهر منه خيوط رفيعة في الأحلام وزلات اللسان والانفعالات والمخاوف التي تظهر عندما يفقد الشخص التحكم فتقوى عنده الأنا وتضعف شخصيته في المقابل، وقد تتضح لنا الصورة أكثر بتشبيه نيتشه عنما قال:

«أحيانًا نرفض فكرة بسبب النبرة التي قيلت بها.»

فرفض الفكرة هنا لم يكن بسبب عدم صلاحها أو حتى ضعفها، ولكن بسبب أن النبرة التي قيلت بها لا يتقبلها العقل اللاوعي، أو أنها كانت لهجة مشابهة لشخص مكروه مُخزنة عنه في اللاشعور.

ويمكن رؤية تأثير اللاوعي بمنأى عن مصطلحات التحليل النفسي عندما تجد نفسك تبتعد عما يزعجها بآليات دفاعية لاشعورية كالنعاس مثلًا والكسل والتسويف. حتى إذا كان ما يسبب الإزعاج ضروري ويجب فعله، فإن اللاوعي ليس من مهامه التخطيط أو الحساب بنظرة مستقبلية منطقية فمهامه كلها لا تتخطى البحث عن اللذات اللحظية وتجنب الألم والأشخاص الذين سببوه، أما كل ما يتوجب تخطيطه والتريّث فيه واستخدام المنطق، يقع داخل نطاق سيطرة الذات الواعية أو الأنا.

وقد يتساءل البعض كيف يكون الهو اندفاعي ولاعقلاني وفي نفس الوقت قد يندفع الإنسان في مواقف بطولية أو يدافع عن ضعيف بصورة تشبه رد الفعل الذي لا يتطلب تفكير، هل هذا يعني أن الهو لا يقتصر على اللذات فقط؟

وضّح فرويد ذلك بمصطلح جديد يُسمى بـ «الأنا الأعلى» أو قبل الشعور، وهي المنطقة الخاصة بالضمير أو الرقيب النفسي والفضيلة الأخلاقية، فهو الجزء الأقرب للملاك في التحفُظ والالتزام بالعادات المجتمعية والدينية وكل المثاليات على عكس الهو الحيوانية الباحثة عن الملذات.

وتُكتسب الأنا الأعلى خلال فترة الطفولة من الآباء والمعلم في المدرسة أو المنشأة الدينية، ثم تتحول بعد ذلك إلى رقيب داخلي بدلًا من رقيب مُتمثل في أشخاص.

الآن يتضح لنا صراع الإنسان بصورة كاملة، فالأنا الواعية في صراع دائم بين الهو والأنا الأعلى، فلا يستطيع الشخص أن يُطيع الهو الحيوانية بشكل كامل لأن ذلك سيعذب الأنا الأعلى الفاضلة، ولا يستطيع كذلك الاستجابة للأنا الأعلى ويعيش بالمُثُل ناسيًا لرغباته وملذاته فيتعذب بكبت الهو، لذلك فإن واجب الأنا الواعية هو تحقيق التوازن بشكل يرضي كل الأطراف، فلا يعيش في المدينة الأفلاطونية بالأنا الأعلى ولا يعيش في القاع مع اللذات واحتقار الذات باللهو، وإذا تحقق ذلك التوازن سيكون الناتج إنسان سوي نفسيًا.

والاختلال في تلك المعادلة تنبثق منه معظم المشاكل النفسية نتيجة للكبت أو احتقار الذات، فيلجأ الأشخاص الذين يعانون من الاختلال في المعادلة بسبب عجز الأنا عن تحقيق التوازن إلى بعض الحيل الدفاعية؛ وتلك الحيل الدفاعية تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

  • حيل دفاعية خداعية.
  • حيل دفاعية هروبية.
  • حيل دفاعية استبدالية.

في الحيل الخداعية تخدع الهو الأنا بسلوكيات دفاعية كالكبت مثلًا فينقل الشخص الأحداث المؤلمة من الوعي إلى اللاوعي للتخفيف من وطأتها، وهناك كذلك حيلة خداعية أخرى وهي «الإسقاط Projection» فيقوم الشخص بلوم الآخرين على أخطاء قام هو بها، واخيرًا في مؤخرة الحيل الخداعية؛ التبرير فنرى الشخص يُمجد فيما سبب له الألم و المعاناة، كمن يمدح الفقر زاعمًا أن المال لا يشتري السعادة أو من يرى في تجربة مؤلمة جمالًا خفيًا وفي الدماء زهورًا ما ستنبت فوق الجرح المتقيح.

ثانيًا الحيل الدفاعية الهروبية؛ كالخيال للبعد عن الواقع الغير مُرضي، وهناك النكوص؛ فيرجع الشخص إلى مرحلة عمرية سابقة ليمارس السلوكيات التي كانت تحقق له ذلك الأمان المفقود.

وأخيرًا الحيل الدفاعية الاستبدالية؛ كالتعويض مثلًا، فيقوم الشخص بتعويض النقص سواء بالإيجاب أو السلب، فيبدأ الضعيف في ضرب الأضعف لتعويض نقص إحساسه بالضآلة ويبدأ من يشعر بعدم الاستحقاقية في محاولة نيل الاستحقاق.

وهناك حيلة استبدالية أخرى كالإزاحة، فيقوم الشخص بإزاحة الضغوط الخاصة بمشكلة ما على شخص آخر، كالمثال الشهير للرجل الذي ينهر رئيسه، فينهر زوجته ثم تنهر الزوجة الابن فيصرخ الطفل في القطة. وآخر حيلة إستبدالية وأفضلهم هي التسامي وهي أن يحاول الشخص توجيه كل الضغوط والصراعات والألم النفسي تجاه عمل فني إبداعي مقبول اجتماعيًا، كالرسم مثلًا أو ممارسة الرياضة أو القراءة أو حتى كتابة مقال فلسفي عن الأنا والهو والأنا الأعلى.

فمهما اختلفت الأساليب والآليات يبقى النتاج الأخير هو الأهم وتظل السلوكيات هي غاية كل من أراد العدل والانصاف وليست المشاعر أو النوايا، وفي تلك الحرب الأزلية المشتعلة في دواخل كل شخص منا، لا تنسَ أن تأخذ معك قول نيتشه: «أما الآن فقد حوّلتُ حبي إلى الله وما الإنسان في نظري إلا كائنُ ناقص».

مصادر:

الشعور بما يحدث: انطونيو داماسيو

الأنا والهو: سيجموند فرويد

هكذا تكلم زرادشت: فريدريك نيتشه