عمار مطاوع
عمار مطاوع

د

إلى صديقي البعيد جدًا

على شاطيء الإسكندرية قبل نحو عشرين سنة، ألقيتُ رسالة في قارورة بعرض البحر؛ أملًا في أن يلتقطها “صديقي البعيد جدًا” الذي ينتظرها عند الجانب الآخر.. لحظة طفولة بريئة محتها الأيام وتجاوزتها الحوادث والأزمات، لكن لم أكن أعرف أن للقصة فصولًا أخرى، وأن البحر ظل حاملًا أمينا لرسالة الطفل حتى وصلت محطتها، ولو بعد عشرين سنة!

لطالما كنت أتوق إلى السفر بعيدًا حين أكبر، لكن لم يكن يدور بخلدي أن أبتعد كل هذا القدر أبدًا، أو أن تطول زيارة الأحلام الخاطفة حتى تستحيل مُقامًا طويلًا لا يُعلم متى ينتهي.. حلمتُ يوما بالذهاب إلى القمر، وإلى الشمس، وإلى أبعد من ذلك بكثير.. بدا ذلك في خيالي أكثر منطقية من أن أصل يومًا إلى غابات اللاتين.

هنا، حيث تتعثر تطبيقات الخرائط، وتتعذر لافتات الطريق.. حيث تغرب الشمس فوقنا، فلا تزور بلدًا آخر حتى تغادر الأرض، حيث المحيط العظيم يتحدى شموخ جبال الأنديز، وشعب يؤمن بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان.. هنا، حيث مصر هي الأهرمات والنيل ولا شيء أكثر.. والحرف العربي وحي من خيال التاريخ، يتحسسون صاحبه كأنه حارس الأمازون الخفي الذي يحكون عنه للأطفال في الحكايات.

أحببتُ تلك البلاد حقًا، رغم ما فيها من بلاء وشقاء وانعدام رفاه.. لها يدٌ عليّ لن أنساها ما حييت؛ دخلتُها أحمل هم الدنيا وما فيها، بلا أمن ولا إيمان، لم يكن لدى تلك البلاد الفقيرة الكثير لتعوض به مصابنا، غير أنها أرض حانية طيبة، بسيطة هينة، تحمل عنك سخط الدنيا، وتلقيه قرب التماسيح في النهر الطويل..

بلاد طيبة، لم تُرزق من متاع الحياة إلا لغة رقيقة كأنها موسيقى، وأُناس يرقصون في الضراء أكثر مما يرقصون في السراء..الناس هنا تضحك على الدوام، بشوشة، مؤمنة بأن قوة عظمى فوقهم أو تحتهم.. لا شك ترعاهم.

حتى الفقر هنا يبدو حانيًا ورقيقًا، يأكلون ما يجود به المحيط أو تلقي به الوديان، السمك نيئ لا يُطهى، والموز يُسلق في الزيت فيخرج خاليا من مذاق، لكنه يملأ البطن ويسد الجوع!

ها قد مرّ عام هنا، بطيء مثل جبل يتحرك.. رأيتُ فيه ما لم يخطر على بالي يوما، وخطوت أرضا لا أعرف عربيًا أقام فيها قبلي، وورثت خزائن من القصص والحكايا تكفي لأن أُعجز جدةً تحكي لأحفادها خلاصة الحياة وحكمة الأيام.

لا أدري لِم تذكرتُ اليوم رسالة شاطيء الإسكندرية وأنا على أطراف المحيط العظيم أحدق في كل قارورة تبدو من بعيد.. هل يمكن أن تتحقق المعجزة؟ هل تسخر الحياة مني مجددا فأكون أنا الراسل وأنا المُستقبِل؟

تخيلتُ نفسي لحظة أقرأ سطرها الأول من جديد: “إلى صديقي البعيد جدًا“.. يا لسخرية الحياة! فسواء وجدتها أم لا، فالذي لا شك فيه هو أنني قد أصبحت فعلًا “صديقي البعيد جدًا”.. جدًا!

توماكو – الإنديز